رفيق الزنزانة

0
46

في شهر نوفمبر 2022 كان معظم الرفاق والأنصار والأصدقاء منشغلين بدعم مرشحي كتلة “تقدّم” في الحملات الانتخابية للمجالس النيابية والبلدية، وقبل بدء الجولة الأولى من التصويت أتانا الخبر الحزين برحيل الرفيق موسى داوود، وبالرغم من هذا الحدث الأليم لم يتقاعس الرفاق عن حضور مراسم التشييع وتقديم العزاء، لما للرفيق موسى من تاريخ مشرف ومضيء ضمن نضالات الرفاق المنتمين لجبهة التحرير الوطني البحرانية.

واستناداً لما كتبه الرفيق موسى نفسه مطلع فبراير 2005 تحت عنوان “ذكريات مناضل” أنه في ظروف الحرب العالمية الثانية التي امتدت آثارها على الوطن العربي، وبالتحديد في ديسمبر 1941 كان موعد ولادته في بيت قديم مصنوع من السعف واقع في فريج التلغراف بالمنامة، حيث تعود تسمية ذلك الفريج إلى تأسيس أول محطة ارسال من قبل شركة “كيبل أند وآيرلس” البريطانية، فتربى في ذلك البيت حتى بلغ السادسة من عمره. تعلّم القران في فريج العوضية القريب من مقبرة البحارنة وحفظه خلال ستة أشهر.

في عام 1954 التحق بالمدرسة الأهلية لصاحبها المرحوم الأستاذ عبدالرسول التاجر، فدرس فيها اللغة الانجليزية والقواعد ومسك الدفاتر والطباعة لمدة أربع سنوات، ثم التحق بالمدرسة الشرقية في رأس رمان لمدة سنة واحدة فقط، فحيث أنه يجيد اللغة الانجليزبة رفع إلى الصف الرابع الابتدائي .

في عام 1956 التحق بمدرسة التدريب المهني في شركة بابكو وتخصص في الأجهزة والآلات الدقيقة كونه طموحا في التعلم. ودفعته متابعته للمستجدات على الساحة السياسية، للمشاركة لأول مرة وبصورة عفوية في المظاهرات الطلابية المنددة بالعدوان الثلاثي على مصر، حيث كان يحيطه عدد من الأصدقاء القوميين والناصريين. في ذلك الوقت لم يكن لدى الرفيق أي انتماء لأي تنظيم لأن ثقافته كانت محدودة بالرغم من شدة حماسه وتطلعه للمتغيرات السياسية، وسرعان ما دفعه ذلك الحماس والتطلع للمتغيرات السياسية في البلاد إلى الاهتمام بالقراءة والإطلاع على مختلف الكتب الأدبية والسياسية والمجلات الصادرة من البلدان العربية، فكان شغوفاً بخطب جمال عبدالناصر وقراءة مؤلفات ساطع الحصري وخالد محمد خالد وجورج حنا ومكسيم غوركي وغيرهم من كتّاب عرب وأجانب .

ولم يكتف الرفيق الراحل موسى بإجادته التحدث باللغة الانجليزية عندما كان يدرس في بابكو بقسم التدريب المهني، بل حاول، من خلال احتكاكه بالعمال، أن يتعلم لغات أخرى أيضا مثل اللغتين الهندية والإيرانية، وكذلك التعرف على العديد من العمال والطلبة الدارسين بقسم التدريب المهني، وهذا ما قاده إلى التعرف على شباب ذوي اتجاهات ماركسية لينينية من أمثال يعقوب يوسف جناحي وحسن علي محمد وغيرهم، ومن خلال هذه المعرفة تبلورت أفكاره نحو الوجهة الماركسية اللينينية وعرف أهمية التمسك بالنظرية الثورية لما لها من دور فعال في قيادة الطبقة العاملة وتوجيهها نحو النضال ضد المستعمر الغاشم ومحاربة استغلال الإنسان للإنسان، وعلى ضوء ذلك بادر مع رفاقه في مركز التدريب المهني بتشكيل خلية تنظيمية لدراسة الواقع الطلابي والقيام بنشاط تثقيفي نقابي، ووضعوا جدولاً زمنياً لاجتماعاتهم كي يتابعوا المستجدات في نشاطهم السياسي والثقافي في أوساط الطلبة والعمال بشركة بابكو.

في سنة 1957 شبّ حريق هائل في فريق البلوش فاحترق بيت والد الرفيق موسى، فانتقلت العائلة إلى بيت أخ زوجة خاله عبداللطيف الذوادي شقيق الرفيق أبوقيس، أحمد الذوادي،  ونشأت فرصة سانحة للرفيق أبوقيس لأن يعرض على الرفيق موسى في مطلع عام 1958، أهمية الإنضمام لصفوف جبهة التحرير الوطني، وبالفعل تمّ تنظيمه بعد أن شرح له أهداف التنظيم وكيفية العمل مع الجماهير وتثقيفهم من أجل توسعة قاعدة التنظيم في جميع مناطق البحرين، وأصبح ذلك دافعاً قوياً ومعنوياً لنشاط الرفيق في أوساط الطلبة والعمال خاصة في شركة بابكو، حيث استطاع بحماسه الثوري ووعيه السياسي أن يقنع كثير من العمال بأهمية الإنتماء لصفوف الجبهة من أجل النضال ضد استغلال الإنسان للإنسان المتمثل في الوجود الاستعماري البريطاني، هذا النشاط المفعم بالحماس أهلّه مبكرًا لأن يكون كادرًا قياديًا بارزًا في صفوف الجبهة .

ونتيحة لنشاطه السياسي في العمل وخارجه تمّ اعتقاله من موقع عمله لأول مرة في فيراير عام 1959، وعندما أطلق سراحه بعد أسبوعين من الاعتقال طلب منه التردد بصورة أسبوعية على قسم المخابرات بالقلعة، ولكونه نبهاً وصلباً أثناء التحقيق أدرك بوعيه السياسي أن ذلك الطلب كان بمثابة حرب نفسية، التزم به دون أن يحصلوا منه على أي معلومة ذات جدوى، ملتزماً في الوقت نفسه بنشاطه السياسي والتنظيمي، وعاكفاً على توزيع نشرة “الجماهير” في منطقة المنامة وفي منطقة عمله بشركة بابكو مواصلاً نشاطه حتى أحداث انتفاضة 1965 التي كان سببها الرئيسي تسريح عمال شركة “بابكو” البالغ عددهم ألف وخمسمائة عامل، وكان دور الرفيق آنذاك يكمن في منع العمال من مواصلة العمل بالشركة بطريقة منع باصات الشركة من الوقوف في المحطات لجانب مشاركته في المسيرات والإضرابات العمالية بالرغم من المطاردات البوليسية وجهاز المخابرات بمنطقة المنامة والحورة وفريج البلوش بقيادة وتوجيه الضابط يوسف البلوشي.

كان لانتفاضة 1965 أثر شعبي رفع من الوعي السياسي والمدّ الثوري، فاستمرت المسيرات والإضرابات العمالية حتى صيف عام 1968، فقامت المخابرات بحملة اعتقالات واسعة في صفوف الجبهة، شملت العديد من الرفاق والكوادر والذي كان من بينهم الرفيق موسى، حيث أخذ من عمله إلى القلعة، ومن ثم نقل إلى جزيرة جدا، حيث وضع هناك في زنزانة انفرادية لمدة سنتين، وخلال تلك الفترة التقى بالعديد من الرفاق المعتقلين بينهم إبراهيم ديتو وعلي دويغر ومحمد عبدالرحمن كمال وإبراهيم سلمان مكي والقائمة تطول، فكان يتبادل معهم قصاصات الورق لمعرفة أخبارهم ومناقشة المسائل المستجدة جراء الهجمة الشرسة على التنظيم وآثارها السلبية، دون أن ينال ذلك من معنوياته المرتفعة بالرغم من حرمانه المقابلات الشهرية مع أهله أسوة ببقية المعتقلين حتى صدور الأمر من جهاز المخابرات بترحيله من البلاد عام 1970، فاختار التوجه إلى دولة الكويت، وهناك التقى الرفيق بأصدقائه العمانيين الذين قدموا له المساعدة التامة من توفير السكن وغير ذلك، ومن خلالهم تعرف على رفاق دربه البحرينيين من أمثال محمد كشتي الذي كان يعمل بشركة النفط الكويتية، وبحكم العلاقة الرفاقية أصبح له أصدقاء كويتيون نقابيون وسياسيون، فتمّ التنسيق معهم في العمل السياسي والنقابي في دولة الكويت وكذلك التواصل مع الحركة الوطنية في البحرين .

في عام 1977 سمح له بدخول البلاد فتزوج ورجع الى دولة الكويت ليواصل عمله هناك حتى عام 1986، حيث رجع للبلاد مع أسرته وله من الابناء ثامر ومي وريم، وعمل موظفاً في محطة الكهرباء والماء بمنطقة سترة لمدة خمسة عشر عاماً حتى أعياه التعب فأصبح عاملا متقاعدا حتى موعد الرحيل.

بذل الرفيق موسى طوال حياته النضالية الكثير من التضحيات متحدياً كل العراقيل والصعاب سواء في السجن أم خارجه وحتى في المنفى، حبث ظل متمسكًا بمبادئه وأخلاقياته الإنسانية لجانب الإخلاص والتفاني في الدفاع عن خطه الفكري والطريق الذي اختاره منذ ريعان شبابه، طريق النضال في صفوف جبهة التحرير الوطني من أجل الحرية والديمقراطية والسلم، وكما ذكر الرفيق في مذكراته المشار اليها آنفا: “إن الجبهة هي القيادة الواعية لتوجيه الطبقة العاملة والشعب البحريني نحو النضال ضد المستعمر البريطاني ومن أجل تحرير الطبقة العاملة من الاستغلال وأن الجبهة بالنسبة له هي كل شيء في حياته،  إنها الأوكسجين الذي يتنفسه وبدونها لا يمكن أن يعيش، إنها الأمل لغدٍ مشرق للشعب البحريني وفي مقدمته الطبقة العاملة البحرانية”.

الرفيق موسى هو أحد المؤسسين للمنبر التقدمي، وكان متابعاً دقيقاً لأخبار ونشاط الرفاق في “التقدمي” وخارجه، وكان حلمه دوما مواصلة النضال من أجل مجتمع ديمقراطي أفضل. رحل جسداً وبقيت ذكراه خالدة في قلوب رفاقه وأهله ومحبيه، فلروحه السكينة والسلام.