في عالم الفكر والكتابة، تتنوّع المواضيع التي تأخذ المجال في التحليل والمناقشة، التي من خلالها نحاول الوصول إلى المعاني الجديدة، في القيم والاتجاهات والأهداف. هذه المعاني التي تأخذ من الأهميّة والجدارة، بالقدر الذي تتجه فيه نحو أسئلة الحياة الكبيرة، باحثةً عن الدور والمكانة، التي يسعى ويرتقي لها الانسان في هذه الحياة.
الشخصية التي يضيء عليها هذا المقال، لها من المكانة والتأثير في الفكر العربي الحديث، خصوصاً ذالك الذي تجوهر في قيم التنوير والتقدُّم والنهضة. وقد قرأت مقالاً عبر (موقع صوت العراق) لكاتبه المحامي: أحمد سامي داخل، واصفاً شخصية الموضوع الرئيسية، برائد التنوير المنسي، ولذالك يكون العنوان أعلاه، هو جزءٌ من الوفاء، لشخصية النهضة وكاتب المقال.
الكاتب المصري سلامة موسى (١٨٨٧ – ١٩٥٨)، تعلمنا من خلاله الجوهر الأوّل لمعاني الفكر والكتابة، وهي الكتابة الهادفة، النابضة بالقيم البشرية، التي استطاعت الحضور عبر الكتاب والكلمة، والوصول إلينا في الحياة العصرية.
هل هو الالهام أم الاهتمام، ذالك الذي يقودنا نحو هذه القيم والأفكار ؟ وهنا نسأل عن البدايات مع الكاتب سلامة موسى، وأنني أستذكر القراءة الأولى مع كتابه: (فنّ الحياة)، والذي أعتبره من أجمل الاضاءات على قيم التمدُّن العصرية؛ في الحياة والثقافة والتربية، وأيضاً في الزواج والأسرة والشخصية. وعندما أعود لمطالعة فصول هذا الكتاب وصفحاته، أشعر بأهميّة القراءة الثانية إليه، للاستيعاب الشامل لمعانيه وأفكاره.
القراءة لفكر سلامة موسى، هو أشبه بالدخول إلى بوابة واسعة من التنوير والتمدُّن، ذالك الذي يقودنا نحو الأسئلة المهمّة في هذه الحياة؛ أسئلة التغيير والارتقاء نحو الأفضل. وقد وصفنا التمدُّن سابقاً، بأنه الحياة الأكثر تنظيماً للانسان. ومبدأ التنوير هو أحد عناوين هذا التنظيم، ذالك الذي ينهض بالمجتمع والانسان؛ ونستطيع أن نختصره بالوعي واستخدام العقل. وعندما نقوم بمقاربة أسئلة التنوير مع مجتمعاتنا التي نعيش فيها، تتأكد لدينا أهميّتها، من أجل النهوض بالحاضر والارتقاء بحياتنا.
الأفكار والمعاني الهادفة، هي المقياس الأوّل للمنجز الثقافي والفكري، وهذه المعاني هي القاعدة والمبدأ، عند رائد التنوير سلامة موسى.
إن الآفاق الهادفة لفكر التنوير، نتعرّف عليها من خلال التحديث والتطوير في الحياة الانسانية، والتي اختصرها رائد التنوير بزيادة التعليم والصحّة والثراء؛ وجميعها غايات نبيلة ومنشودة، تتبلور منها قيم الخير العام. ودعوة التعليم كانت واضحة وضرورية، في العقود الأولى من القرن الماضي، من أجل النهوض بالمجتمعات في تلك المرحلة، والتي تجاوزتها المجتمعات الحالية. ولكننا نواجه اليوم الأزمة الأصعب، عبر تراجع النقد والتنوير في حياتنا، ومن تغليبٍ للجمود والتقديس، وهنا يكون الوعي الاجتماعي، أمام التحدّي والمسؤولية؛ بين الخضوع والتقليد أو التحرر والتجديد.
التحدّيات الاجتماعية تعود في الأساس إلى التحدّيات الفكرية، ومبدأ التنوير يعالجها من خلال الابتكار والتفكير؛ وأزماتنا الحاضرة هي الدليل الأكبر على ذالك. وعندما نقرأ مؤلفات سلامة موسى، نشعر بتلك الجهود الكبيرة، التي عالجت وناقشت شؤون الحياة المختلفة؛ في التربية والثقافة والتمدُّن، وأيضاً في الأبعاد الانسانية والحضارية المنشودة.
مكانة التقدُّم في فكر سلامة موسى، كانت حاضرةً دائماً في نهجه وأفكاره، وقد تجاوزت النظريات التقليدية، ووصلت إلى الأبعاد الشاملة في المبادئ التقدُّمية؛ من خلال العلوم النفسية و (الثقافة السيكلوجية)، التي ذهبت لتحليل الشخصية الانسانية والاتجاهات الاجتماعية. لقد كانت النظريات التقليدية تعتقد بالوراثة في شخصية الانسان، ولم تدرك قيمة النمو في الشخصية، متجاهلةً الوسط العائلي والاجتماعي؛ وقد أثقلت هذه المعتقدات والأفكار بحياة الانسان، وجعلته بعيداً عن التطوّر والارتقاء. ولا زالت الثقافة العربية لم تستوعب جيداً هذه المفارقة المهمّة. إن التقدُّم في الحياة يكون عبر الأفكار الحسنة، الايجابية والهادفة، التي تقودنا نحو الخير والهناء الانساني. وتحقيق هذه القيم في عالم اليوم، عالمنا العربيّ خصوصاً، يحمل من الصعوبة والمسؤولية الكثير. هذه الصعوبة التي تهون بقيم العلم والعدالة والوعي الانساني. وتختلف هنا طبعاً الأمم والبلدان في ذالك، بقدر ما وصلت فيها مستويات العلوم والتقدُّم والحضارة.
لقد قدَّم رائد التنوير المنسي الكثير من قيم التقدُّم والنهضة إلى المجتمعات العربية، وقد يكون أجملها هو اعادة الاعتبار لمكانة المرأة وشخصيتها في الثقافة العربية. وفكرة المساواة بين الرجل والمرأة هي الغاية المألوفة والطبيعية في حياتنا الحاضرة؛ ولكن هذه الفكرة، في العقود الماضية، كانت بعيدةً عن ذالك، في الفكر والوجدان العربي. إن تاريخنا الماضي بالنسبة للمرأة، كان مليئاً بعدم التقدير والاحترام لمكانتها وشخصيتها، والسبب الرئيسي وقتها، هو العادات والتقاليد والأميّة المتفشية. والجمود في البلاد العربية قصته طويلة، نتعرّف عليها عبر مقارنة الحاضر مع فصول التاريخ الماضي؛ من خلال الخضوع والتأييد للرجعية الاجتماعية والمفاهيم التقليدية السيئة. ولذالك تتأكد لدينا أهميّة التقدُّم في القيم والأفكار؛ لتأسيس نهضةٍ اجتماعيةٍ جديدة، عنوانها الأوّل: مكانة الأفراد والحريات الشخصية. وهذه النهضة الطبيعية، تنشدها المجتمعات الحديثة، تلك النابضة بالثقة والاحترام والشجاعة وتحمُّل المسؤولية.
الاتجاه في الحياة، هو أحد الأسئلة المهمّة التي يواجهها الانسان في حياته؛ فهو يولد إلى هذه الدنيا بغير ارادته، ينشأ في الوسط الذي يعيش فيه، ويتعلم منه القيم والمعاني وأسلوب الحياة، دون معرفة الماضي أو الحاضر في هذه القيم. ومن خلال طبيعة الحياة في التغيير والتطوير، يتشارك معها الانسان في مواكبتها نحو الأفضل، أي نحو الاتجاهات الحسنة والراقية. ولكن هذه الطبيعة، تكون متراجعةً في بعض البيئات والمجتمعات، خصوصاً تلك التي ورثت تاريخاً ثقيلاً من الخوف وعدم الاستقرار؛ فتلجأ إلى الجمود والتقاليد، وتعود إلى الماضي بدلاً من مجابهة المستقبل.
إن عدم معرفة القدوة الحسنة والاتجاهات الواضحة، هو جوهر الأزمات التي نعيشها في حياتنا، من خلال الابتعاد عن المبادئ الهادفة لفكر التنوير والتقدُّم. والتراجع الذي نعيش فيه اليوم في مجتمعاتنا ودولنا، هو نتيجةٌ لغياب هذه الأفكار. ومبادئ الخير العام والمصلحة العامّة تنهزم في الحياة العربية، لأن خطواتنا تجاهها غير واضحة، ومن النزاهة والعدالة أن تكون هذه المبادئ؛ القدوة الأولى في حياتنا.
الاضاءة والتنوير على القيم الهادفة، التي أنارها سلامة موسى في فكره ومؤلفاته، هو طريقٌ يقودنا للوفاء إلى أنفسنا، من خلال ضمانات المستقبل، في النهضة والاستقرار والعدالة. هذه الضمانات التي تحملها المبادئ التقدُّمية، هذه المبادئ المنسيّة في حياتنا، التي تراجعت فيها قيم التحديث والتطوير، والذي شمل جميع مسارات حياتنا؛ الاجتماعية والسياسية، الادارية والاقتصادية، التربوية والثقافية. وقد قرأنا على صفحات هذه النشرة، قبل أكثر من عام، مقالاً يضيء على أحد فصول سيرة سلامة موسى، والذي كان عنوانه: (برنامج السنوات العشر القادمة)، وهو يعكس المرحلة السياسية التي عاشتها مصر في تلك الفترة، أي في العام ١٩٤٧، ورغم صعوبة تلك اللحظة الراهنة، كانت الرؤية حاضرة والآمال متجددة عند سلامة موسى. ومن أجمل الوعود التي وعدها رائد التنوير المنسي في هذا المقال، أنه لن يتوقف عن تأليف (الكتب المقلقة) لتكون خمائر صغيرة، يبعثها في مصر وإلى سائر الأقطار العربية (من أجل زعزعة التقاليد السود، وحرق العفن من الأفكار الجامدة). وهنا يكون التأثير، بل الشكر الجزيل، إلى الكاتب الذي أضاء على هذا المقال المنير والرائع.
التأثر والتأثير هو من طبيعة الحياة الفكرية والثقافية، والاتجاهات المنشودة في حياتنا، تكون عبر هذه الأسئلة المهمّة، من أجل معرفة الطريق والمسار الذي نمضي فيه في هذه الحياة. وبقدر ما يكون الانسان مدركاً لقيم الحياة العليا في التطوّر والنهضة، على قاعدة الاحترام الانساني وقيم الخير العام؛ يكون حينها سائراً على الطريق الصحيح والمنشود. والحياة العصرية الحديثة، حافلة بالكثير من التحدّيات والأسئلة، وفكر سلامة موسى، يحمل لنا الكثير من الاجابات وخرائط الوصول، إلى هذه الحياة الطبيعية والمتوازنة. هذه الحياة، وهذه الغاية، المنشودة لدى سائر المجتمعات البشرية.