على خطى “بنت” أنور وهبة

0
80

تتلاطم الكثير من الأفكار المتضاربة حين نقرأ أو نستمع إلى تجارب الإناث الأولى التي اخترقت عادات المجتمع الصارمة، تلك التي قبلت أن تكون في موقع لم يسبقها أحد فيه. وكثير من الظروف المختلفة التي هيّأت الأنثى أن تكون في موقع حصد شارة أول الظهور؛ كالرغبة، والطموح، أو وجود المثل الأعلى والقدوة/ تشجيع الأهل/ استجابة لرفقة أو صديقة؛ كثير من هذه الأسباب وغيرها جعلت منها الأولى، ثم انطلق بعدها من شهدن على نجاح الخطوة، وأردن أن يسرن على نفس الدرب. وإذا كان هذا ينطبق على كل نواحي الظهور العلني للمرأة في المجتمع المغلف، المتكتم، الذي يهاب ذكر اسم الأم الصريح؛ قلقاً، وليس احتراماً، وإذا قبل وانساق لعمل الأخت والزوجة والابنة في المهن المختلفة، فكيف يقبل أن تخرج متفردة ولها اسمها وشخصيتها البعيدة عن الكيانات الجماعية في العمل المعتاد؛ كالمدارس، والمستشفيات، والأماكن الأخرى المتاحة، والمقبول عملها فيها؟

إن في قراءة السير الذاتية للممثلات مؤشرات واضحة على أن الطريق دائماً لم يكن ممهداً، إلا في حالات نادرة جاءت بمساندة من وجود أحد من الأهل مؤتمن على من معه، فلا يخشى من كلام الناس وحديث المجتمع؛ مثل أن تكون وحيدة بين ذكور، ليست بينها وبينهم صلة قرابة، وثمن هذا أن تدفع الممثلة من سمعتها وسمعة أهلها الذين سمحوا لها بهذا العمل – ولو لوقت من الزمن – ولا حكم لأي حكم على المجتمعات، إلا ما قد يستحدث من المجتمع نفسه، حيث التطور التلقائي الذي يحدث بمرور الوقت، كما يعلمنا التاريخ ويرسخ هذا المفهوم التجارب السابقة.

وكي لا تبدو هذه مادة مطروقة تكررت في مراجع وشهادات شفهية في مهرجانات ومناسبات استضافت ممثلات للحديث عن تجاربهن في الدراما المتاحة، من مسرح وتلفزيون وسينما وإذاعة، ستتم الإشارة إلى جانب من تجربة الممثلة البحرينية التي دخلت مجال الفن من خلال المسرح؛ على اعتبار أن أبا الفنون هو البوابة التي ستنطلق منها إلى عالم الفن. وسواء كان هذا عبر أكاديمية الفنون ببغداد، أو الدراسة الأكاديمية التي سلكتها مبكراً، وتحديداً منذ وقت افتتاح معهد الدراسات المسرحية، ومن بعده المعهد العالي للفنون المسرحية في دولة الكويت، والتي استقطبت أسماء بحرينيات هاويات، آمنَّ بموهبتهن وبتكريسها أكاديمياً، فكنَّ حملة راية البداية؛ بداية الحلم الذي ربما لم يتحقق كما يجب. فكيف كان ذلك؟

من خلال قراءة تاريخ المسرح البحريني عبر مصادر مكتوبة وشفهية، يعتبر خروج المرأة للعلن في وقت مبكر إنجازاً، في الوقت الذي لم يمنح بعد حق التعليم للإناث في بعض دول المنطقة حولنا. والعلن المقصود به هنا: كل الفضاءات التي تسلط الأضواء عليها في المسرح والإذاعة والتلفزيون، ولاحقاً السينما. والمسرح، باعتبار أنه البداية التي جاءت مع التعليم النظامي في المدارس، منذ افتتاح الهداية الخليفية في العام 1919، ومن ثم بدأ في عرض “قاضٍ بأمر الله” في العام 1925، وما رافق هذه البدايات من جمال ومتعة الجديد، لم يصمد طويلاً، لأن السنوات – منذ تاريخ هذا العرض وحتى عام 1975- ليست تاريخاً متواصلاً من العمل المسرحي، فقد كان ينشط لفترة زمنية، بعدها ينحسر إلى أجل غير مسمى، ودون أسباب واضحة موثقة لكي يفهمها من يقرأ تاريخ المسرح بعد ذلك.

لذا يرى الشاعر الكبير قاسم حداد أن التجربة المسرحية في البحرين تبدأ من مشارف السبعينات، التي يرى أنها بداية الحركة المسرحية، بعد تقسيم الفترات؛ منذ البداية المدرسية في المسرح الحكومي المدرسي، ومن ثم في العام 1940 في المسرح الأهلي، ولاحقاً في الخمسينات عبر الفرق التمثيلية الجامعة لفنون أخرى غير المسرح، ثم مرحلة الوضوح والاستقرار النسبي عبر الفرق المسرحية عام 1971. وفي خضم كل هذا، وفي ظروف مجتمعية تقبل دخول الذكور في المسرح على مضض، باعتباره مجال تسلية وفرجة مباشرة، كيف كانت ظروف دخول الإناث في ذات المكان؟

يرصد كتاب “التجربة والأفق” التجربة الجديدة في العام 1945 مع مسرحية “الهادي”، التي قام بإعدادها وإخراجها محمود المردي، بظهور أول فتاة على خشبة المسرح، وهي من الجنسية المصرية، حيث إنها ابنة أنور وهبة، أحد أعضاء البعثة التعليمية حينها، وممثل بنفس العرض (1). ولعل هذا سبب مطمئن يجعل من وجود العنصر النسائي مقبولاً حسب شرع المجتمع، لأن هذا الوضع قد تكرر في العام 1969، حين شاركت الممثلة نجلاء أحمد في عرض مسرحية “بيت طيب السمعة”، والذي عرض في الكويت أيضاً، وكانت بمعية شقيقها الممثل عبدالله أحمد عبدالله بنفس العرض، في الوقت الذي أكد فيه الفنان الكبير الراحل محمد عواد أن فترة السبعينات من القرن الماضي لم تشهد هذه النظرة القاسية لوجود العنصر النسائي ضمن طاقم التمثيل، كما ألمح لها وأشار قاسم في بعض مواضع كتابه، بل ذكر أن وقت “البروفة” المسرحية كان طويلاً، تكون فيه العلاقات مبنية على الاحترام، ويغلب عليها روح الأسرة الواحدة. كما أشار عواد أيضاً إلى سهولة دخول الممثلات القادمات من فرق شعبية، حيث القابلية تكون أكثر، وأيضاً لكون معظم هؤلاء يعملن مع أفراد من عوائلهن، أو معارف العائلات، مثل: موزة خميس، وموزة سعيد. وما يعزز رأي عواد، هو قائمة مؤسسي مسرح أوال في 1970، الذي ضمن اسم الآنسة سلامة مرزوق مع ثمانية عشر عضواً من الذكور.

أما الحالة الثالثة، فهي اسم لم يذكر على الإطلاق من قبل في أي مرجع لتاريخ المسرح البحريني، أو حتى ضمن طاقم أي عمل مسرحي، وهي أنيسة العلي، التي كانت أول بحرينية تدرس في معهد الدراسات المسرحية، الذي يدرس مواد الفنون المسرحية، وقبل أن يتخصص في الفنون المسرحية؛ من نقد وأدب مسرحي، وتمثيل وإخراج وديكور، ويصبح ما هو عليه الآن: المعهد العالي للفنون المسرحية. والعلي، التي قدمت مع زوجها آنذاك للدراسة في الكويت، كانت تطمح أن تكون “ماكييرة” وليس ممثلة، مبررة ذلك بـ “الظروف والناس”، وهي “بنت خليجية”، و”اللبيب بالإشارة يفهم!”(2). ومع هذه العبارات التي صرحت بها للمجلة، يفهم القارئ السياق الاجتماعي التي عنته أنيسة، والعائق أن تدرس ما تحب، أو أن تأتي منفردة لدراسة فنون، وليس أي تخصص آخر. وهذا يعني القبول المجتمعي في حال وجود “ولي أمر” موافق، ويعزز أيضاً وجهة نظر قاسم حداد عن كون المشكلة في المجتمع، وليس الفن، وموضوع الاستمرارية يعود لأسباب متعددة، وظروف متعلقة بقلة أو انعدام الفرص وإنتاج العروض، أو ربما هذه الحالات حسبت أنها مرحلة مبكرة من أعمارهن وانتهت، لتأخذهن الحياة في المسار المعتاد لعيش النساء في الخليج.

في كل الفترات، ظهرت أسماء وتراجعت أسماء، كلها على استحياء، دون القدرة على استحضار اسم استمر في مجال التمثيل، حتى حين تجرّأت الفتاتان بروين زينل وفاطمة شويطر في منتصف الستينات للوقوف أمام العلن في معرض البحرين التجاري والزراعي، لم يستمر هذا لصالح المسرح، بل إنهما اتجهتا إلى الإذاعة، ولوقت طويل أيضاً، إلى أن ظهرت حياة الخطيب التي درست المسرح في أكاديمية الفنون ببغداد، وتخرجت في منتصف السبعينات، ومثلت وعملت مساعد إخراج مع الفنان خليفة العريفي في مسرحية “سرور”، ثم عملت – منفردة – مخرجة لنص “المنجم”، وهو نص شعري لمعين بسيسو، ثم لحقت الأخريات اللاتي آثرن خوض مجال آخر بإرادتهن، أو حسب ظروف الحياة.

ورغم أن الخطيب قد مهّدت لدراسة التمثيل دراسةً أكاديمية، تبعتها أخريات فيما بعد، على سبيل المثال لا الحصر: أمينة القفاص، وأحلام محمد، وماجدة سلطان، وأخريات، ولكل اسم من هذه الأسماء عائلة تدعم وتساند – حسب رواياتهن الشخصية -، وهذا يدل بشكل حي على التغيير المجتمعي والوعي الذي أتى به الوقت، ويثبت هذا أيضاً أن المسألة – فعلاً – ليست متعلقة بالفن أو المسرح، ولكنها تتعلق بالمجتمع نفسه! وربما في هذه الحقبة يخفت السؤال: كيف ينظر المجتمع إلى الفتاة على خشبة المسرح؟ وكيف يتعامل زملاؤها المشبعون بالعادات التي تجعلهم لا يسمحون لأخواتهم أن يمثلن معهم أو بدونهم؟! وكيف ينظر المجتمع أصلاً إليها؟

بينما في تجربة مشابهة، وفترة زمنية قريبة، كان ظهور فنانتي الكويت مريم الصالح ومريم الغضبان، بالإضافة إلى رفض الأهل القاطع، يعتبر خرقاً لعادات المجتمع حينذاك، لكن الفرق في تدخل أسماء كبيرة ومهمة من أجل موافقة أسرتيهما، وتوفير العناية والاهتمام والأمان. الفرق بين الظرفين هو التشجيع والدعم الذي جعلهما في الصدارة لوقت طويل جداً، مع أخريات خضن نفس التجربة، وتقديمهن إلى المجتمعات الفنية والأوساط الإعلامية بأنهما: أول فنانتين من الكويت، وهذا وحده كفيل بصنع فخامة تليق بمشوارهما الحافل، بالإضافة إلى الموهبة التي تطورت بالدراسة والممارسة بالتأكيد.

يحمل تاريخ الممثلات في البحرين إرثاً وثقلاً وتجارب صقلت ولمعت ثم خفتت، ومثلت وجهاً حضارياً. لكن ثمة ممحاة مسحت جزءاً من هذا الجهد، وهذا العطاء. وإلا فأين ذهبت الأسماء النسائية التي وردت في كتب مسرحية لمؤلفين في الخليج؛ مثل د. حسن رشيد، د. نادر القنة، أو د. محمد حميد السلمان، وغيرهم؛ ولم نسمع عنها لاحقاً؟ لِمَ لم تكتمل تجاربهن؟ بل إننا لو فكرنا في حصر عدد المشتغلات في المسرح، سيحتاج هذا إلى مجهود كبير، مشروط بأمانة الباحث. إذ كيف يكون الحصر إذا لم يظهرن في المحافل المخصصة لهن، ونحن لدينا قصور في إبرازهن بشكل محدد لائق، بعد إلغاء مسابقات التميز في الفنون المسرحية، وعدم وجود دعم كافٍ لإنتاج عدد أكبر من العروض المسرحية، وحتى العروض الموجودة تكون بمقاييس مهرجانات بعينها، أملاً في المشاركة الخارجية، والتعريف بالعمل المسرحي البحريني. ولو عدنا إلى ما قبل هذا، سنجد البعثات الدراسية للفنون المسرحية التي حولت إلى جهة غير الجهة المعنية، ومن قبل هذا كله حصص الموسيقى والمسرح في المدارس، التي دخلت في نطاق التحريم من عدمه دون حسم. فمن أين لنا، بعد هذا كله، بحركة مسرحية نشطة أصلاً، ذكوراً أو إناثاً؟

قضية محلية شديدة التعقيد، شديدة الأهمية، وشديدة الحساسية، مناقشتها تحتاج إلى حلقات جدية ممن يعنيهم الأمر فعلاً، ويرغبون في تغيير الواقع إلى ما هو أفضل من الآن، وعدم الاستسلام للظروف التي تفرض التجميد وتجاهل التعامل، في حين تتم الاستعانة بأخريات من الخارج، أقل موهبة وحضوراً، مع وعي وإدراك أن طبيعة المسرح التنويرية تفرض أن يكون أسرع من خطوات المجتمع البطيئة. لكن الزمن لا يسترضي أحداً، ولا ينتظره. وكما لم تأتِ المصادر على ذكر اسم ابنة أنور وهبة بعد عرضها اليتيم، ولم يهتم أحد بمعرفته أصلاً، سيؤول نفس المصير للأجيال التالية، ولن يهتم أحد بذكر من أتى لاحقاً!

الهوامش

  • المسرح البحريني التجربة والأفق 1925-1975، قاسم حداد، مسرح أوال، 2016
  • حوار أنيسة العلي مع عبد العزيز الحداد، مجلة عالم الفن، الكويت 16 فبراير 1972