إنما لها أعتذر منك أستاذي لأقدّم شكري لها أولاً، فهي من صبرت وتحملت ووقفت وضحّت بأشياء كثيرة من أجل أن تقف أنت اليوم شامخاً مُعْتَرَفاً بك وبنهجك الثقافي التنويري المتقدم. هي صاحبة الحب الكبير والعطف الكثير والحنان المتدفق، هي السكون والسكينة، هي الجدار الذي تستند عليه وهي المنبع الذي تأخذ منه كل الحب! هي الصدر الذي تبكي عليه وأنت مطمئن، فهي الخير كله والكرم كله هي المرأة التي يتمناها كل رجل، من منا لا يتمنى امرأة بكل تلك الصفات، تكمن عظمتها في تصوري عزيزي القارئ في أبيها، ذلك العالم الكبير محمد باقر الشخص رحمه الله وغفر له، الذي رثاه أستاذنا بأجمل القصائد وكان مطلعها يقول:
أكذا يقذف البراكينَ نبعُ
أكذا يرهف الصوارمَ درع؟
تصوّر وكن معي حاضراً عزيزي القارئ وتخيل عندما تنشأ في بيت رجل دين من النجف الأشرف وفي بدايات القرن العشرين وما يحيط بهذا المجتمع من تشدد ومحافظة، وتخرج إلى بيت شاب قدم من الأحساء وتفتح وعيه من جديد على ظواهر وأفكار جديدة، بدأت تغيّر أشياء كثيرة لم يعد مقتنعاً بها، بل يصل الأمر إلى خلع العمامة التي كانت رمزاً للمجتمع في ذلك الوقت وإلى اليوم، وتصبر، بل وتقف معه كما قال: لي على لسانه هو “أم عادل كانت معي معمماً وغير معمم ولم تتخلَّ عني يوماً من الأيام”. وعندما طرحت عليه تساؤلاً آخر وقلت: “كيف تحملتك أم عادل طوال تلك السنوات ” ردّ قائلاً: “فعلاً فأنا لا يتحملني جبل”.
لو تساءلت معي عزيزي القارئ ما سر تلك العذوبة والرقة والعاطفة التي ملأت قلبَ أبي عادل بل وتجعله أكثر بوحاً بها وكل متتبع لمقالات محمد العلي الأخيرة يلاحظ ذلك وبكل وضوح، وهي عاطفة كان يبوح بها للقريبين منه جداً ولكن اليوم يقولها للملأ دون أي تحفظ أو خجل ودونما أي اعتبار لاسم محمد العلي الذي أصبح أيقونة للأدب واللغة والثقافة والتنوير، ماذا حدث كي يصبح العلي بهذه الرقة الشديدة؟
أولاً الفقد يا صديقي القارئ، كان كبيراً ولم يعوّض رغم مرور سنوات عديدة، فتلك المرأة لا يجود بها الزمان في كل وقت؛ فهي مثل الكنز تعرف قيمته بعد فقده. ثانياً لم يعد يجد صدراً يبكي عليه دون خجل، صدر يعطيه الأمان والحب، صدر يأخذ منه كل الذبذبات السلبية ويعطيه الثقة بأنه يفكر بشكل جيد وأن المشوار أمامه طويل جداً يحتاج لصبر، فالبناء الفكري غير كل الأبنية محتاج لزمن طويل جداً.
وهنا يأتي تساؤل آخر منك أيها القارئ الكريم، كيف استطاعت تلك المرأة ذات التوجه الديني أن تمنح ذلك الإنسان المتمرد كل تلك الطاقة لمواصلة المشوار فهي ابنة رجل دين في نهاية الأمر. هذا التساؤل يجعلنا نقف قليلاً ونتأمل البيئة النجفية والبيت النجفي الذي نشأت فيه أم عادل والتفكير الديني ورجل الدين والحوزة الدينية وطرق التدريس فيها لنفهم بعد ذلك أن رجال الدين مختلفون في تفكيرهم الديني والاجتماعي والثقافي بسبب طرق التدريس بالحوزة الدينية، ويعني ذلك أن المرأة التي تزوجها محمد العلي لم تنشأ في بيت محافظ جداً بل هناك قليل من الحرية ونتيجة تلك التربية كانت تلك الشخصية الفريدة التي التقت بشخصية الأستاذ لتشكل لنا ثنائيا فريدًا من نوعه لا يمكن أن يتكرر في أي زمان أو مكان لأن الظروف تغيرت والأزمنة لم تعد كما كانت.
أعتذر منك أستاذي مرةً أخرى لأقول للراحلة العظيمة أم عادل شكراً ومن الأعماق لقلبك الكبير الذي ينضح بالحب والعطاء، وشكر خاص على كل ما قدمته للأستاذ والمجتمع، فخلف كل رجل عظيم إمرأة عظيمة، ما أنطق به اليوم شهادة حق لصاحبة حق.