خير القرون وتداعياتها

0
69

قراءة في كتاب “خير القرون” للدكتور علي الديري

إن التاريخ الفكري في واقع الأمر متداخل بين القديم والحديث ولا ضيرَ أن نرجع الى التراث في أمور عديدة لانزال في حاجة إليها، في حاجة الى أن نستقرء الماضي ندرسه ثم نحاول استلهام الأفكار التي تخدم واقعنا في سبيل الكفاح الراهن للنهضة والتقدم، لاجدوى من أن نقرأ التراث لنطبّقه حرفياً على الواقع، فالتاريخ متحركٌ دائماً ويحرك بدوره المجتمعات وخصائصها الإجتماعية والسلوكية ونظم المعرفة (الإبستيمات) التي منها يحلل الأفراد وذوي الإختصاص الأفكار ثم إنتاج المعرفة التي تنعكس مباشرةً على الواقع.

 يصف د.عبدالإله بلقزيز في كتاب “العرب والحداثة” تداخل أزمنة الفكر في هذه الفقرة التي يقول فيها:” إن أزمنة الفكر متداخلة وليست مستقلة عن بعضها البعض. قد يبدو القديم معاصراً، وقد يبدو المعاصر قديماً. ربما يطيب لأكثر الحداثيين فينا أن يجد أجوبة عن مطالبهِ الجمالية في شِعر المتنبي أو أبي نواس، أو نصوص الجاحظ والتوحيدي وابن قتيبه، أو في صوفية الحلاج والسهروردي والنفّري وابن عربي، أو في أعمال دانتي وشكسبير وبلزاك أو في موسيقى بتهوفن وموتزارت وتشيكوفسكي(…) الأهم من ذلك أن الكثير منّا لايجد سبباً للشعور بعدم التوازن حين تتجاور في وجدانه الفني والجمالي وفي فكره قيم وأفكار القديم والجديد، فيتفاعل مع الأول بنفس تفاعله مع الثاني. وهذا هو عين ماوصفناه بالتداخل بين أزمنة الفكر والثقافة” (ج1 ص90).

ليس من الضروري إذن أن نقطع بين الماضي والحاضر قطيعة شاملة ونهائية إلّا في بعض الظروف الإستثنائية القليلة. علينا أن نعي قبل كل شيء أن التاريخ بحد ذاته إنما هو علمٌ احتمالي يعتمد على مدى توافر المصادر الموضوعية من آثار وأحافير ومخطوطات وعلى ضوء مايتوفر من مصادر يبني الباحث تصوره عن حدث سابق. علم التاريخ اليوم قد تطور كثيراً وتطورت أدواته، فالمصادر التي تعتمد على مانقله السابقون وعلى موثوقية الرواة وحدها لا يعتمد عليها في علوم التاريخ الحديثة. لايمكن بأي حال أن يكون التاريخ عقيدة ثابتة وحتمية حتى وإن توفر كمٌّ وفير من المصادر. هذه واحدة من المعضلات الإشكالية التي تعاني منها ثقافتنا في المجتمعات الإسلامية فهي تتعامل مع التاريخ كصنم ثابت وبقليل من الموضوعية بالحد الذي يخدم كل طائفة على حده، حتى أصبح الثبات السكون التاريخي/الفكري أمر بالغ الأهمية في سبيل التأصيل لفكرة خير القرون!

في كتاب “خير القرون” يحاول د.علي الديري تفكيك خطاب خير القرون الذي تحوّل شيء فشيء من خطاب وفكرة عامة الى إيديولوجيا سياسية وعقيدة اجتماعية مفادها أن الخير كلِّه قد وجُد وحُصر في زمن معين وأشخاص محددين فانتهى الخير بنهاية وجودهم الفيزيقي (المادي) ليبدأ وجودهم الميتافيزيقي (الغيبي) ماسيجعل التاريخ برمته يدور في حلقة مفرغة. تحولَ الخير من مفهوم أخلاقي وقيمة إنسانية عُليا في متناول الجميع الى عقيدة سياسية مذهبية يتم تعريف الإسلام والجماعة والطائفة على أساسها.

من خلال قراءة التاريخ تبرز لنا الكثير من الأحداث الدموية التي حدثت في زمن خير القرون بين الأصحاب والتابعين، وفي تاريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك/أبو جعفر محمد بن جرير الطبري 224ه-310ه) مثلاً نماذج كثيرة على الإختلاف والإقتتال ولعل أبرزها ماعرف بالفتنة الكبرى. من خلال تقصي تاريخ الطبري. يتساءل الديري عن مدى الخيرية في تلك القرون؟ وهل كان الأصحاب متحدين فعلاً في سلوكهم وأفعالهم وذهابهم وإيابهم أم أنهم كانوا كانوا مختلفين في أكثر الأمور أو أقلها؟ والإختلاف سنة كونية بطبيعة الحال.

لماذا لا تزال فكرة خير القرون فوق النقد، مغلفة بالقدسية منذ عقود مضدت الى اليوم ولا يمكن لأحد قراءتها قراءة تحليلية موضوعية؟ كيف ومتى تمّ تقديس التاريخ؟

أسئلة نتركها للقارئ عند قراءته للكتاب، والظاهر أن خطاب خير القرون يهدف الى حجب العقل والمعرفة وحصرها في سُلطة معينة تكون هي وحدها المنتج والضامن للمعرفة، تريد غلق باب التساؤل في جوهر الأمور وتوجيه زاوية النظر حيثما تريد، فتكون الرؤية محصورةً في زاوية أحادية ضيقة، ثم”تدشين الخير في مفهوم القرون الثلاثة الأولى كقرون فيها صلاح آخر الأمة، لذلك تأتي مقولة إن صلاح آخر الأمة بما صلح به أول الأمة. إن هذه القرون الثلاثة الأولى ستُصلح القرون التالية، وأي حركة إصلاح تبقى مقرونة بالعودة الى الماضي. الإصلاح هو إبقاء ماكان في القرون ألأولى” (خير القرون ص81) يمكن القول أن خير القرون هي محاولة لإلغاء ماقبلها ومابعدها وهي أشبه الى حدٍما بفكرة موت التاريخ عند فوكوياما.

تمّ التأصيل إذن لفكرة خير القرون سياسياً ثم كلامياً لأسباب صارمة تحدد اتجاه سير القطيع حسب ماتريد، فمثلاً على المستوى السياسي حتى لايخرج أحد على سلطان جائر، والعقائدي الإجتماعي حتى لايخرج أحد على الإجماع فيظل الإنسان تابعاً أياً يكن الأمر، والتاريخي حتى لا يُقرأ التاريخ قراءة بشرية موضوعية كما فعل الشرق والغرب مما قد يجعلها تختلف مع القراءة الرسمية. ولكي تظل الشعوب في حالة ركودٍ وتبعية لمن يحتكرون المعرفة والخير، أن تجتر الماضي وتضعه في غير موضعه على الدوام وفي كل القضايا الراهنة.

نحن في حاجة ماسة الى قراءة نقدية تغربل هذا الخطاب الطوباوي وتضعه أمام النقد والفهم وتدرس مسبباته وتداعيتها على الأجيال السابقة واللاحقة، فالماضي في ثقافتنا العربية والإسلامية مايزال يمدّ يده ليخنق الحاضر في كثير من الأحيان، وهذا مايريد الديري تقصيه في كتاب “خير القرون” ووضعه على الطاولة للتحليل والتدقيق والمراجعة، وقد اشتغل مطولاً على إظهار هذا البحث بإسلوب سلس وأنيق تسهل قراءته للجميع وهو من الأمور الصعبة التي تبرز قدرة الباحث على جعل المعقّد ممكناً وعلى احترام القارئ ومادة البحث.

خير القرون ثم خير المكان وخير الأصحاب ثم خير النبي وأي خلل أو نقص في هذه السلسلة التراتبية سيؤدي الى نقص في أولها أي النبي، هذا ماتعمل على ترسيخه فكرة خير القرون، مع أن الأمر ليس بالسهولة هذه ولا بالطريقة المتخيلة هذه، لأن الأصحاب قد اختلفوا على امتداد خير القرون واختلفت الأمكنة والأزمنة. وعلى وقع أحداث الفتنة الكبرى وتداعياتها نشأ ماسيعرف بعلم الإسناد وهو نابع من ذلك الحدث السياسي، ثم نشأ بعده ماسيعرف بعلم الجرح والتعديل أو  علم الرجال للحد مما ينقل بين الفرق الإسلامية المتخاصمة عن النبي من أقوال وأفعال.

فمن خلال علم الإسناد يمكن الإجابة عن التساؤلات الأساسية التي تتعلق بالتاريخ النقلي، وبالتالي من يملك علم الإسناد بإمكانه أن يحتكر المعرفة والمتن والمُسند، بات من الصعب إخفاء ارتباط علم الإسناد بالسياسة، وحين يرتبط العلم بالسُلطة يكون القوي وصاحب النفوذ هو من يحدد الصحيح وغير الصحيح، الجائز من عدمه، وعلى نحو ذلك يتولد الإنحياز والرأي الواحد. من ضمن الأمور التي تم دعمها بعلم الإسناد وبشكلٍ لافت مقولة خير القرون، فتجد هذه العبارة في الكثير من المرويات المُسندة، فأُغلِقت “إمكانية قراءة هذا التاريخ في سياقه الحقيقي حيث الصراعات، لأنها حوّلت التاريخ الى عقيدة مقدسة، لايجوز لك أن ترى فيه إلاّ الخير. (بينما) يكون التاريخ حيث الخير والشر في صراع دائم، فإسقاط الشر من حدث خير القرون يجعل منها قروناً مقدسة لا قروناً تاريخية” (خير القرون ص160)، نقع مرة أخرى في تحويل التارخ من أحداث عامة وظواهر طبيعية تتم دراستها علمياً الى تاريخ مقدس ثابت لايتغير، الأمر الذي يوقعنا في باستمرار في جدليات الماضي والحاضر، التراث والحداثة، الأصالة والتقدم، فتظل تلك الجدليات معلّقةً تراوح مكانها دون أن تنبثق من نقائضها أيّة نتيجة جديدة، فالنهضة عندنا على سبيل المثال قد تتكرر عبر التاريخ مرتين أو ثلاث ولاينتج عنها حداثة أو مدنيّة حداثية كالصين واليابان والهند وغيرها.