ممنوع من التداول

0
36

في العام 2002، كتبت هذا المقال واعيد كتابة اجزاء منه اليوم للمقارنة بما كنا عليه وما اصبحنا فيه

“سؤال: هل من الممكن ان تتواجد في سيبيريا وانت في البحرين ؟

سؤال افتراضي قد تقولون، لكنه حدث ويحدث كل يوم وفي كل مكان في العالم الثالث، أن ترى نفسك منفيًّا ومبعدًا بينما تعتقد أنك في الوطن، والذين اكتووا بهذه الظاهرة العجيبة أسمّوا انفسهم “الممنوعون من التداول”.

إنها فئة لا شأن لها بالسياسة احياناً، لم تصدر بحقّها يوماُ أحكام قضائية ولا سوابق مخالفة لها حتى في السجل المروري، مع ذلك حرمت هذه الفئة ولسنوات بل ربما عقود، من الحضور والتواجد والظهور والنجاح والإنجاز، وقد خضع هؤلاء ولسنوات طويلة في أعمالهم الحكومية وأنشطتهم الخاصة لقانون شفهي غير مكتوب وغير واضحة احكامه ومدد عقوبته، وهو قانون أشد قسوّة وألماً من غيره من القوانين، فالمشمول بهذا القانون او المتضرر – اذا كان موظفاً رسمياً على وجه التحديد – لا يدري لمن بيث شكواه ولمن يتظلم، إذ انه لا يملك أدلة مادية ملموسة على استهدافه او استبعاده من الترقيات والحوافز والمكافآت والدورات المهنية التدريبية ومن قوائم المدعوين والمكرمين في الحفلات السنوية، ومن رحلات وبرامج السفر الخارجية، حتى تلك المشاريع الخاصة التي يدشنونها وحدهم وعلى نفقتهم الخاصة لا تلبث أن تتبدد وينفضّ عنهمم الشركاء أو يحجمون عن الاستمرار معهم فيها دون مبررات، أو ربما قد يخرج هؤلاء الشركاء ويعلنون  على الملأ  براءتهم من تلك المشاريع وتنكرهم لأي شراكة فيها .

وعليه فمن المستحيل ان تجد صورة أحد اولئك “الممنوعين من التداول” منشورة في أي مطبوعة أو جهاز إعلامي  رسمي أو خاص، كما لن تراه يوماً يدلي برأي أو تصريح، أو مدعواً إلى مؤتمر أو فعالية عامة كأقرانه وزملائه في هذا المجال أو ذاك، لذا فقد عاش “المنوعون من التداول”  حياة ضيقة ومحدودة ومحاصرة وعالية التوتر، اذ ظلّ الخوف والتوجس يعتريهم من الإقدام على أي مشروع جديد، وتبدو الصورة أمام هؤلاء مشوشة ومبهمة، إذ قد يسئ احدهم فهم وقراءة الأشياء والبحث في بواطنها وجذورها فيتهمون من حولهم، زملاءهم وأصدقاءهم أو أعداءهم، او ربما حتى أزواجهم بالكيد لهم او التآمر عليهم أو الوشاية بهم، وقد يركنون إلى حقيقة أن ثمة أشباحاً غير مرئية تتحكم في مصائرهم، أو أن نحساً من نوع ما يحيط بتحركاتهم، إذ لا توجد أوراق وتصاريح واضحة بحقهم تقول بالرفض أو المنع أو غيره”.

انتهى المقال الذي أوجزت جزءاً منه لأقول إن الممنوعين من التداول بالأمس نعموا بفسحة زمنية من التداول امتدت لعشر سنوات، وذلك في أعقاب انطلاق المشروع الاصلاحي لجلالة الملك، ثم جاءت أحداث الربيع العربي عام 2011 فأعيد الكثير منهم وأضيفت إليهم مجموعة أخرى أكبر إلى قفص “منع التداول”،  لكن هذه المرة وفق قوانين أوضح وأشدّ قساوة، إذ جرد البعض من حرياتهم وجنسياتهم وجاء قانون العزل السياسي فوضع نسبة كبيرة من المواطنين في خانة الممنوعين من التداول في الشأن السياسي والاجتماعي والمهني والنقابي.

وقد بدا للوهلة الاولى أن تقرير اللجنة المستقلة الوطنية لتقصي الحقائق، أو ما اصطلح عليه شعبيا ب “تقرير بسيوني”، وبما تضمنه من توصيات مهمة سيمثل جسراً لرأب الصدع واعادة الثقة بين الحكومة والشعب، وأنه سيظل مرجعاً أساسياً في أي خلاف أو تازم سياسي لاحق بين الطرفين، لكن ذلك لم يحدث،  بل أن التقرير الأممي ذاته قد أصبح هو الاخر منسياً و”ممنوعاً من التداول”.