الثورة الثقافيّة في الصين وأحداث لا تنسى

0
76

عندما يجرى نهر الأحداث إنسيابيًا، وتدور الدوائر بالثورة والثوار في أي بلد باتجاه يكاد أن يكون مميتًا، فمن الطبيعي أن تكون هنالك أسباب تجعل من هذا الحدث مثار أخذ ورد. تعود بنا الذاكرة لحقبة الستينات من القرن الماضي وتحديدًا  في العام 1961، ففي السادس عشر من شهر مايو أطلق الزعيم الصيني ماوتسي تونغ نداءه للشباب بالثورة لاجتثاث ما زعم باختراق البرجوازية للحزب الشيوعي الصيني، وعلى إثر ذلك أطلق الشباب على أنفسهم الحرس الأحمر ليشنوا حملة هوجاء ضد أي شخص أو مجموعة يعتقدون بأنها ضد أفكار ماو والكتاب الأحمر والذي يتضمن أفكاره لتعيش الصين حقبة جديدة، صاخبة ودامية، ولتستمر حوالي العشر سنوات جرى فيها تعذيب وقتل العديد من المواطنين ومات على إثر ذلك زهاء المليون وسبعمائة ألف إنسان، وغرقت البلاد في الفوضى وتمّ تخريب  جانب كبير من تراث الصين الثقافي وأصبحت الصين بفعل تلك الثورة قاب قوسين أو أدنى من الحرب الأهلية .

لزوم هذه المقدمة ما شدّني لما  قرأته للروائي الفرنسي من أصول صينية (غاو إكسينغيان ) والحاصل على جائزة نوبل في الأدب سنة 2000، ففي  روايته  (سفر رجل)  يتذكر تلك الحقبة من تاريخ الصين بعيون العارف بدقائق الأمور والأحداث التي جرت، وكيف كان الناس يعيشون رعب تلك الفترة السوداء من تاريخ الصين الحديث، حيث كانت الشعارات تدعو لقتل  المناوئين لفكر ماو مما ولد  الرعب والخوف في نفوس المواطنييين وعلى الأخص المثقفين والكتّاب منهم .

ففي موضع من هذه الرواية يحكي غاو إكسينغيان عن تلك الأحداث ويسرد لنا على لسان أحد الشباب لتبرير ثورته على مناوئي ماوتسي تونغ “ففي حين أننا منهمكون بالثورة الثقافية البروليتارية العظيمة، ها هم يثيرون لهب الرياح الشريرة، ويضرمون النيران الخبيثة، يتآمرون مع الناس في المراتب العليا، ويفرون الى الأسفل، ويتآمرون مع  أشخاص من المراتب الدنيا. إنهم عازمون على تدمير كل مستويات حزبنا في دائرة العمل … إلخ”.

أحداث تتالى وآلآم تتوالى ومصير مجهول ينتظر ما تحقق من إنجازات، ولكن بصيص الأمل يتلاشى  في ظل تلك الفوضى المفتعلة باسم الثورة الثقافية التي اعتبرت من قبل القيادة الصينية في العام 1981 خطأ كبير تجاوزته فيما بعد القيادات الشابة للحزب الشيوعي الصيني، الأمور تغيرت بعد موت ماوتسي تونغ وعادت  الصين عملاقاً يحسب لها العالم ألف حساب.

(سفر رجل) رواية جميلة ومسلية تقع في اربعمائة وستة وتسعون صفحة كتبت في العام ١٩٩٨في باريس وأصدرتها  دار نينوى، وتأخذك أحداثها أيضاً بعيداً عن الصين والثورة الثقافية، حيث يبدأ غاو إكسينغيان روايته بتذكر وجوده في الصين قبل أن يترك بلده ليهاجر إلى فرنسا  ليعود مرة أخرى لبلده، ليتذكر أيام طفولته حيث كانت الحياة بالنسبة له أشبه بالحلم، فالمرء لا يستطيع التخلي عن ذكرياته.

يعري الكاتب في هذه الرواية السلطات الصينية من خلال القيود العديدة التي ابتكروها سواء أكان في الملبس والمسكن وحدود التفكير وحرية الرأي والتعبير ليصبح  المجتمع في سجن كبير.

يقول غاو إكسينغيان: “فقد كان يتعذر عليه أن يفسر لهذه الفتاة التي جاءت للتعلم  ماهي الحياة، بل ماهو  هو الأدب. إذ كان ذلك  مستحيلًا كاستحالة أن تفسر لسكرتير الحزب المسؤول عن اتحاد الكتّاب أن ما يعتبره أدبا ليس بحاجة إلى توجيهات أو موافقة من أحد”.

ضجيج الثورة الثقافية يملاً سماء الصين وشعاراتها تجوب تلك الديار الشاسعة خوفا من اختراقات البرجوازية، وطرق محاربة تلك الطواحين تتعدد ولكن الهدف واحد هو بقاء الزعيم الأوحد ماوتسي تونغ متربعًا في أعلى الهرم والضحية هم الشباب المتحمس لتلك الجمل الثورية التي استهوتهم لدرجة من إن الولد يبلغ عن عائلته والتلميذ عن معلمه، استجوابات بالجملة، وهكذا ليتحول  المجتمع في غمضة عين إلى فوضى عارمة.

وهكذا تصاغ الأفكار من خلال ما يذكره لنا (غاو) في روايته عن أحد المتحمسين للثورة الثقافية:

  • “إني أنبه الرفاق إلى أن يحذروا هؤلاء الذين يريدون إعادة الرأسمالية.
  • إني أتحدث عن شياطين الثور وأرواح الافعى، من أعلى المستويات، ومن أدناها  بدءًا من مركز الحزب وحتى الكوادر الإقليمية. وعندما نعثر عليهم في مركز الحزب، من واجبنا أن نسحلهم  بدون رحمة …الخ.
  • كانت السلطات آنذاك تحتاج إلى أعداء، فبدون أعداء كيف يمكن للسلطات السياسية أن تحافظ على دكتاتوريتها؟”.

يأخذك ( غاو)  في جولة من باريس إلى هونج كونغ،  تايوان، ألمانيا، إيطاليا، السويد، نيويورك، تولون على ساحل البحر الأبيض المتوسط، يستقبل المعجبات بمسرحياته التي تعرض في أرقى الصالات ويصوغ من خلال تلك الأحداث قصص حب وحوارات ليضفي على تلك الرواية ( سفر رجل ) طابعا مميزا لذيذا مهضوم لبساطة تعابيره  وعمق نظرته وأسلوبه الأخاذ.

تحيلك هذه الرواية الى بداية المد الماوي الذي اجتاح منطقتنا وبالخصوص إبان ثورة ظفار وبداية المشوار السياسي أيام الطلبة وكيف كانت تلك الشعارات تستهوينا وتجعلنا منغمسين في حلم جميل وكأننا نمور ولكن من ورق كما يقول ماوتسي تونغ .

تتعدد الأحداث وتبقى الحرية مقصد لكل الشعوب بغض النظر عن الأنظمة وما تتباها من شعارات، فالواقع هو الذي يبقى أما الشعارات فتذهب مهب الرياح.