تقول إحدى العبارات القاتمة “غالباً ما ترونه على القبر هو تاريخ الدفن.. أما تاريخ الوفاة فلا يعلمه سوى الميت”؛ يتقاطع المعنى ببعض ما عبر عنه الفيلسوف الروماني إميل سيوران..
الرجل الذي استغرق وقتاً طويلاً ليعبر عن هذا المفهوم كان يمشي ذات يوم على طريق منزله وبدأ يفقد جزءاً من ذاكرته وشيءٍ من حس الفكاهة الرائع لديه. سأله أحد المارة في الشارع: “هل أنت سيوران؟” فأجابه: “كنت!”. ومنذ هذه الإجابة السيريالية بات نسيان سيوران منذوراً بالخطر حد أن أصبح إيداعه المستشفى أمراً مهماً. إلى أن خذلته الكلمات، فلم يعد قادراً على تسمية الأشياء الأساسية، ثم ونسي هويته وأهم تفاصيل حياته.. في
في مرحلة من المعاناة، إثر لحظة عابرة من الصفاء الذهني، همس صاحب “المياه كلها بلون الغرق” لنفسه: “إنها الاستقالة الشاملة”!.
لا يعتبر سيوران التناقض الذاتي ضعفاً، بل يعده دلالة وجودية على أن العقل حيّ. فالكتابة ليست “في اعتقاده” أن يتميز الكاتب بالثبات والإقناع، أو بقدرته على الترفيه عن القراء بل إن ذلك لا يمتّ بِصِلة حتى للأدب. لان الكاتب في نظره لا يكتب ليبدع في جنس أدبي ما، بل ليجرب على نفسه قالب ما؛ ليستعيد توازنه بعد حدوث كارثة شخصية، أو ليُخرج نفسه من نوبة اكتئاب مروعة؛ ليتعايش مع مرض مميت، أو ليبكي على فقدان صديق مقرب.
يكتب سيوران للوحيدين جداً؛ للذين يعانقون العزلة ويدهشهم كافكا ودوستويفسكي.. يعرف كيف يرسم الحزن بعبقرية وبديهية، يشبه قلمه ريشة فان جوخ وهي تلطخ آخر لوحة قبل إنتحاره. الكتابة لدى سيوران مبعثها حاجة حياتية، إذ يكتب الكاتب لكي لا يصاب بالجنون، لكي لا يقتل نفسه أو يقتل الآخرين! في حوار له مع الفيلسوف الإسباني فرناندو سافاتر يقول سيوران: ربما كنت سأصبح قاتلاً، لو لم أكتب!
“ليس من موقف أكثر زيفاً من أن نفهم ونظل أحياء”. هكذا عبر سيوران عن الموت كنكهة يومية يرتشفها، أو نبرة طاغية تتبدى له كتعبير عن أقصى درجات الوعي. أن تقرأ لسيوران يعني أن تمس شكلاً حاداً من أشكال الوضوح الفكري البالغ، أن تدخل “عقلاً هشمه وعيه” يصف الأشياء من دون زخرفة: “لا يفهم المرء الموت إلا إذا شعر بالحياة كاحتضار طويل الأمد، تختلط فيه الحياة بالموت.”.