اليوم العالمي لمكافحة الفساد الذى صادف التاسع من ديسمبر الماضي حاملاً شعار “احفظ حقك، العب دورك، قل لا للفساد” وركزّ على حقوق ومسؤوليات الجميع في التصدي للفساد الذى بات اليوم علماً وفناً وصناعة، إدارة وخططاً وتدبيراً، فساد في كل مكان، ومفسدون بلا حدود، قد يظهرون بمظاهر شتى، في كل شأن ومجال وميدان، في السياسة والشأن البرلماني في العمل الاجتماعي، والعلم والتجارة والاقتصاد والثقافة ومؤسسات المجتمع المدني والدين، بعض من يتدثرون بالدين في المقدمة، هؤلاء لا يحتاجون إلى مهارات كبيرة، غالباً ما يحتاجون إلى مسبحة وسجادة صلاة، يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، والى جانبهم اولئك الفاسدون الذين يتحدثون عن الفساد، وفساد الآخرين وينسون أنفسهم ، فاسدون ضد الفساد، ومصلحون ضد الاصلاح، وهؤلاء واولئك يتصدرون قائمة أسوأ النماذج.
في اليوم التالي مباشرة، أي في العاشر من ديسمبر جاءت مناسبة اليوم العالمي لحقوق الانسان رافعة شعار “الكرامة والحرية والعدالة للجميع”، وهي الحقوق التي، وفقا للأمم المتحدة، تواجه تحديات متشابكة وغير مسبوقة ولا تُحترم كما يجب في العديد من البلدان ومن بينها بلدان مدرجة فى قائمة أسوأ منتهكي هذه الحقوق رغم توقيعها على الاعلان العالمي لحقوق الانسان.
ولا نعلم ما إذا كان هذا التتابع الزمنى بين المناسبتين جاء بمحض الصدفة أم لا، باعتبار أن العلاقة بين الفساد وانتهاكات حقوق الانسان وثيقة الصلة وعميقة الارتباط، لذلك لا عجب أن نجد أن الدول الأكثر انتشاراً للفساد فيها، هي أيضا أكثر الدول انتهاكاً لحقوق الانسان، ولا عجب أيضاً حين نجد أن من بين هذه الدول من يحمل في مناسبات مختلفة راية محاربة الفساد، وراية حقوق الإنسان.
الفساد و نحن هنا لسنا في وارد التعريف به، فالمعروف لا يعرّف، ولا بالاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد والتي تعتبر الصكّ القانوني الدولي الشامل والوحيد في مواجهة الفساد، يضرب الكثير من القيم، ويخرق القانون، ويلتهم أولاً واخيرا حقوق الناس، هو موجود في كل دول العالم، لكنه في بعض الدول يبرز أكثر توحشاً حين يتغلغل في كل شأن وأمر ومجال وميدان، يحوّل العيوب الى مصائب، وحين تكون قدرات الفاسدين عصيّة على المواجهة، وحين يكون من هم معنيون بالتصدي للفساد عاجزين، أو مهادنين، أو متواطئين، أو مستفيدين، او جزء من منظومة الفساد، ينهبون ويعظون وفسادهم يزكم الأنوف، هل يمكن يا ترى في هذه الحالة ان نعلق آمالاً على تطبيق حقوق الانسان، مبادئ وقيم وقناعات وقواعد وارادات واخلاقيات وممارسات وليست مجرد شعارات تردد للاستهلاك العام والخاص كما يحدث الآن في العديد من المجتمعات والدول وكأن هناك من دشن حالة من التعايش مع الفساد، جعله منهج حياة وأسلوب عمل، لذلك لم يكن غريباً ان نجد نجوم الفساد وقد باتوا نجوماً في العديد من المجتمعات.
يمكن في هذا السياق أن نستعيد الى الأذهان ما قاله أمين عام الأمم المتحدة في اليوم العالمي لمكافحة الفساد، كلام يستحق التأمل، الرجل يقول “إنه منذ عدة سنوات يثور الغضب ويسود الإحباط بسبب القادة الفاسدين والحكومات الفاسدة، وأزمة كوفيد 19 هيأت فرصاً إضافية للفساد، وتطوير اللقاحات والعلاجات زادت مخاطر الرشوة والتربح ” ..!، وهذا يعنى في أبسط تحليل كيف تغلغل الفساد، وكيف استثمر الفاسدون الأزمات وأسوأ الظروف، حتى وان كانت مرتبطة بحياة الناس، لا تهمهم حياة الناس ولا عافيتهم ولا صحتهم ولا كل ما يهدد الحاضر والمستقبل، بل يخرجون فسادهم من رحم التحديات، الأزمات عندهم تولّد فرصاً، فسادهم أولاً وأخيراً يلتهم حقوق الناس، يضربها في الصميم، ويتعاظم هذا الفساد في ظل غياب قيم بذاتها، سيادة القانون، الشفافية، المحاسبة والمساءلة، والمساواة، حرية الرأي والتعبير، حرية تداول المعلومات، الحوكمة الرشيدة، كل ذلك لا يهم الفاسدين ولا يعنيهم حتى وان ظهروا بمظهر الحريصين على الصالح العام، او مدافعين عن حقوق الناس.
هناك تقارير صادرة عن هيئات ومنظمات دولية أكدّت أن الدول الأكثر انتشاراً للفساد فيها هي ايضاً أكثر الدول انتهاكاً لحقوق الانسان، وأن افضل الدول في احترام حقوق الانسان هي ايضاً أفضل الدول الملتزمة بالشفافية والحاكمية الرشيدة، والفاعلة على صعيد محاربة الفساد عبر أجهزة معنية بالرقابة والمساءلة وايجاد الضوابط اللازمة لإنفاق المال العام، وهذه الدول ركّزت على بلورة رؤى اجتماعية قوامها مزيد من العدل لصالح الإنسان ومزيد من الاعتبار لصالح الإنسان، وعندما تتحدث عن الواجبات فإنها لا تنسى الحقوق .
هناك من يرى أن الربط بين الفساد وانتهاكات حقوق الانسان لم يظهر بصورة واضحة على المستوى الدولي الا خلال السنوات القليلة الماضية، وخاصة خلال المؤتمر الدولي الحاشد لمنظمات وهيئات المجتمع المدني العاملة في مجال مكافحة الفساد الذى عقد في اكتوبر 2011، حين خصصت جلسات عن العلاقة بين الفساد وحقوق الانسان، ومن ثم عمل المجلس الدولي لحقوق الانسان على إصدار أول وثيقة حول هذا الربط الذى خلاصته أن الفساد يشكل انتهاكاً واضحا لحقوق الانسان، واصبح وجود منظمات مجتمع مدنى قوية وفاعلة ومستقلة، وتقوم بدور في مكافحة الفساد من خلال قيامها بأدوار توعوية ووقائية وعلاجية، واعداد الدراسات والبحوث والتنسيق مع المنظمات الدولية، الى جانب دورها في مجال الدفاع عن حقوق الانسان، من ضمن المؤشرات التي يقاس بموجبها تقدّم الدول وتطوّرها.
اذن هناك قناعة باتت راسخة على المستوى الدولي أن الفساد يرتبط ارتباطًا وثيقاً مع حقوق الإنسان، وانه كلما زاد معدل الفساد وتفشى، انخفض معدل حقوق الانسان، وعليه فان محاربة الفساد والسيطرة عليه ليس فقط ضرورة من أجل تنمية اقتصادية افضل، وانما من اجل حماية حقوق الانسان والتمتع بها وبقيم النزاهة وازالة ما يعيق التنمية وينشر الفقر والجهل ويحول دون وصول الحقوق لأصحابها ومن يستقرئ حقوق الإنسان الأساسية التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الانسان والوثائق الدولية يخلص إلى أن الفساد بكل أشكاله وصوره مثال صارخ وواضح لانتهاكات حقوق الانسان بما فيها حقوقه المدنية والسياسية، وهى حقوق الشعوب، لا منحة من زعيم او رئيس أو ملك أو حاكم أو نظام، حقوق خالدة ليست عطايا او هبات او مكرمات من أي منهم.
المطلوب بذل المزيد من الجهد المقرون بكثير من الجدية والاصرار على تخطى المشاركات الاحتفالية الباهتة وترديد العبارات الإنشائية المعهودة تجاهها، وتشكيل هيئات شكليّة، المطلوب هو الالتزام بكل مقتضيات الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، وكذلك بكل ما يقتضيه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وبكل مقتضيات الديمقراطية لما لها ارتباط بهذا الأمر وذاك، مع التأكيد بأن المطلوب ليس شكل الديمقراطية، المطلوب هو حقيقة الديمقراطية، أو جوهرها، لا ديمقراطية زائفة تضرب الديمقراطية الحقيقية في الصميم، على الجميع الاقتناع بذلك وبهذا الربط، والعمل بكل ما يقتضيه ذلك، و حتى لا يظل هناك فاسدون يرفعون راية حقوق الإنسان .