هل نحن مقبلون على نوع جديد من العلاقات يلامس حتى طبيعة الحب بين حبيبين أو زوجين؟ تقريبا هذا هو السؤال الرئيسي الذي تطرحه رواية الكاتبة والأكاديمية المصرية مي التلمساني في روايتها “الكل يقول أحبك” والصادرة عن دار الشروق، لكنّها تنقلنا إلى فضاء مكاني بعيد تماما عن الفضاء الاجتماعي العربي الذي نعيش فيه، والذي يعطي للعلاقات مفاهيم أخرى تقليدية ومتوارثة.
الأكيد أن شخصيات التلمساني كلها شخصيات عربية قادتها أقدارها بأشكال مختلفة إلى كندا، فاستقرّت هناك وتأقلمت مع طبيعة الحياة فيها، ولأن نساء ورجال الرواية يعيشون في قلق عاطفي مستمر، وقلق مكاني أيضا بسبب الوظائف التي يمارسونها وتوفّر لهم استقرارا ماديا، فإن طبيعة الحب طالتها التغيّرات.
حتى الأزواج الذين يعيشون حياة “مثالية” في ظاهرها، فهي في الحقيقة مجرّد كليشيه يرضي الأطراف جميعها، وكأن متطلبات الحياة هذه الحياة المكتملة مرتبطة بالصمود في علاقة ثابتة فيها أولاد واستمرارية لزواج تحسن التلمساني وصفه: “حلّت الطبطبة محلّ المعاشرة، ولم يعد لدى أيٍّ منا ميل لمناوشة الآخر. تحوّل الزواج إلى شراكة في البيت وما يشبه الصداقة في الفراش. نستعين بالعشرة والمودّة على الغياب والغربة. لو أصابها حزن أو أصابني لوثة انجذاب مفاجئة احتضنها وتشعر بأنفاسي ساخنة فتربِّت على كتفي. نبتسم ونتراجع عن مشروع العناق. كأننا على شفا هاوية” يأتي هذا الاعتراف من شخصية كمال المصري الأكاديمي الستيني وهو يصف علاقته بزوجته، وقد أخذ حقه بالتعبير بصوته عمّا آل إليه بعد فترة اغترابه الطويلة حين التقى كريم ثابت الأكاديمي الأربعيني في القطار، وقد جمعتهما الكاتبة في “كادر” لطيف وذكي حين انعكست صورتيهما في زجاج نافذة القطار، فرأى كمال ماضيه، وتراءى له مستقبل كريم، وكلاهما لم يخطئ في قراءة الآخر، فلقمة العيش تلهو بهما في رحلات دائمة على القطار نفسه، ولكليهما زوجة وأولاد، والحال يبدو لا بأس به لكليهما، لكن الكاتبة ترفض أن نتوقف عند هذه الصورة النمطية الجاهزة، تمنح مزيدا من الحرية لأبطالها، فنتوغّل في أعماق كل منهم، ونكتشف ما تخفيه الذاكرة العاطفية ليس للأزواج فقط بل للزوجات والعشيقات.
في نص محبوك جيدا، ننتقل بين الأصوات لنصغي للرجال والنساء، فبعد كمال المصري وكريم ثابت، تخرج نورهان عبد الحميد أثقال ذاكرتها، ومغامرة عشقها الدائم، وخبايا جسدها الذي خبر الجنس، كما خبر الحب، ثم يأتي دور داينا سليمان التي تشهد على جهة لا مرئية من حياتها وحياة شخصيات أخرى هل التي وثقت للهزّات العربية الكبرى بكامرتها، وكانت شريكة نورهان في حب رجل واحد هو بسام الحايك، تكتشف نورهان ذلك دون أن تعرف داينا، وتعيش هزّة عنيفة خلال حديث جمعهما بالصدفة على الطائرة، لقد كان بسام متزوجا من امرأة مسنة كندية قدم لها الكثير من الخدمات مقابل منحه إقامة شرعية في كندا، وكان في الوقت نفسه يتناول وجبات الحب السريعة خارج البيت مع شابات عربيات يصغرنه عمرا لتعويض ما فاته. لكن دون أية ضغينة أو أحقاد يأتي دور بسام الحايك ليشرح حالته، دون تقديم مبررات، فالطبيعة البشرية هكذا، مزدحمة بالحب، والفراق، وإن كان هناك عتاب ما فذلك مرتبط بحساسية البعض، وهذا لا يحدث معه، تصدق داينا حين تطلق عليه وصف “قنديل البحر” الكائن الغريب الذي يعيش إلى الأبد ما دام داخل البحر، والذي بإمكانه التكاثر لكن دون أن يفكّر في ذلك.
نفهم جيدا أن مي التلمساني تكتب نصا يشبه نصوصها التي تشرّح فيها المشاعر تشريحا دقيقا، مقدّمة تقريرا قاسيا لما ستؤول إليه العلاقات مستقبلا مع ظروف الحياة المتسارعة والذاهبة إلى الفصل بين الجنسين في فضاءات مختلفة لكنّها عاجزة عن إطفاء ميولاتهما الغريزية والعاطفية ككائنين وُجِدا ليعيشا معا.
في أكثر من موقف تقدم الكاتبة المعضلات العويصة التي أصبحت تعيق اكتمال دورة الحب بين اثنين، لكنّها أيضا تقدّم بكل عقلانية الحلول، دون أن تكسر جماليات السرد التي ابدعت في طرحها وكأنّها صور مقتلعة من القلوب المجروحة التي ذاقت الشفاء بعد أن مرّت بمراحل مريرة من الألم.
أحيانا تواجهنا بصور قاسية كالتي نقرأ تفاصيلها في الصفحة 16: ” فترت العلاقة بيننا بلا أسباب واضحة، ربما راح الاندهاش وربما نضبت الرغبة. تجاسرتُ وأخبرتها بميلي للابتعاد، ادعيت مشاعر ذنب معدومة تجاه ناهد، لم تصدقني، ولم تكترث. ثم كفت عن السؤال/…/ ثم كاتبتها مرة فردّت بصورة عارية لها بصحبة كلب، وعلّقت عليها بكلمة تتبعها نقطة: البديل.” كانت هذه إحدى الأجزاء الجميلة من مكاشفات كمال المصري أمام نفسه وهو يتذكر إحدى عشيقاته خلال خياناته الكثيرة لزوجته ناهد بسبب المسافات، لكن هذا لم يكن للتبرير بقدر ما كان مجرد كرٍّ لخيط بكرة ضخمة يختمها بشكل صادم -على الأقل لنا نحن النساء- بأن صحبة الرّجال ممتدة في الزمن أما النساء عموما فحضورهن عابر، ويبدو أن الزوجات يندرجن تحت هذه “الحكمة”!
تنبهنا مي التلمساني أيضا إلى خطورة “الثقافة الأم” إنها عصب عميق ورئيسي في الشخص حتى وإن غادر بلاده دهرا، لا يمكن للسنوات أن تطمس تلك الثقافة ولا الشعور بالانتماء للوطن الأصل، يبحث العربي عن العربي حتى وإن رمته الأقدار إلى أقاصي العالم، وهنا تطرح أفكارا إيديولوجية متعلّقة بالقومية العربية، والحروب العربية، والأنظمة القامعة لشعوبها، وكل التناقضات الممكنة التي يصعب أن تترك أثرا طيبا في الذاكرة الفردية للعربي المهاجر، إذن لماذا يبحث القلب عن شبيهه في المهجر؟ شبيه اللسان، وشبيه الثقافة، إن كان في النهاية هاربا من لفيف تلك الحروب المختلفة.
يدجّن العربي نفسه بنفسه، فيعيش بعدة أوجه، ما دام المجتمع الكندي لا يحاسبه لا على أقنعته ولا على عُرْيه. يذهب إلى حالة التّشبع التي حُرِم منها ولكنّه يفاجأ ببلوغ مرحلة خواء بدل مرحلة الامتلاء التي حلم بها.
لم تتحدّث التلمساني عن الوفاء وقيم أخلاقية كثيرة، كون الإنسان كائن غير ملتزم، لم تتحدّث عن النّدم أيضا، ولكن ذكرت ما قد يكون أسفا على التعرّض للخداع، وهذه كلها أمور ليست غريبة علينا، إنّها تتفشى في مجتمعنا أيضا سرا، ولكنّها معلّقة على شماعات قديمة، ومربوطة بخيوط الكذب المهترئة، وأعتقد لو أن الفضاء المكاني “بلد عربي” لما تقبّل القارئ هذا الموضوع الحساس والشائك بهذا الطرح الصريح، إذ يبدو لنا دائما أننا أبرياء ما دامت أصواتنا مخنوقة وعاجزة حتى عن البوح همسا بين الشخص ونفسه.
هل نحن ضحايا كلمة “أحبك”؟ وفق قراءتي لهذه الرواية الجامعة لقصص أزواج وعشاق ومحبين من كل صنف، أستطيع أن أعتبر هذه الكلمة هي الأخطر على الإطلاق في قاموس الكلام، وهذا ما يجعل الرواية التي ناقشت هذا الموضوع الحساس رواية خطيرة، ولعلّها تذكّرنا بالمثل الفرنسي الشهير: “ربي احمني من أصدقائي لأن أعدائي بإمكاني أن أتدبر أمرهم”، لكن أيضا تذكرني بالحكمة الإنجيلية “من منكم بدون خطيئة فليرجمها بحجر”…
لقد أخذتنا الكاتبة في رحلة أدبية ممتعة لقراءة الإنسان دون محاكمته، وإن كانت منتصرة في آخر الرواية لأهم عنصر لنجاح الحب وهو “السكن إلى الآخر” فالمسافات تقتل الحب، والانشغالات الدائمة تقتله، والفوارق العمرية أيضا والسرية وسرقة المتعة في الأماكن الخفية، وأشياء أخرى كلها توفرت في الرواية ويصعب اختصارها، جاء ذلك حين اختارت الكاتبة فترة الحجر بسبب فيروس كورونا وعودة كل شخص لبيته، كانت تلك رسالة قوية من الطبيعة للمّ شمل العائلات والمحبين والمثقبلين على مشاريع عاطفية يستحيل أن تنجح عن بعد.