لا أنكر أني اكتشفت بعض النصوص الروائية الجيدة خلال قراءاتي مؤخرا -رغم قِلِّتِها- ما أدهشني فعلا، لكن لنكن صرحاء أمام أنفسنا ونعترف أن لغة مواقع التواصل الاجتماعي سيطرت أو تكاد تسيطر على النص الأدبي وتقضي عليه.
القاعدة الأساسية لتويتر هي أنه واحد من مواقع التواصل الاجتماعي، وهي مواقع تجعلنا نتفاعل مع مستخدمين آخرين، وبهذا يمكننا أن نستفيد منها لتسويق منتوجنا سواء كان أدبيا أو تجاريا أو أيا كان.
تويتر منصة مهمة وجيدة للتسويق لكتاب، لكن وفق رأيي الشخصي يستحيل بمقاييسها اللغوية أن تصنع كاتبا.
الجمل القصيرة من أجل الإخبار، تبقى عبارات مفرغة من جماليات المعنى التي يجب أن تتشبّع بها لغة السرد. بيتُ شعر واحد قد يكون تغريدة ولكنّه قد يذهب بقارئه إلى المعنى غير المقصود حسب الحدث الطاغي على المادّة الإعلامية. ومع هذا يقول البعض أن تويتر يناسب فقط شعراء الهايكو البارعين في كتابة أشعار جميلة في منتهى القِصر.
بإمكان تويتر أن يكون مرجعا سريعا لوسائل الإعلام باستخدام “هاشتاغ” وهذا ما يحدث عادة، ما يجعله أسرع وسيلة إعلامية على الإطلاق، لكن القضبان التي يسجن بها عصافيره المغرّدة، توّلد كُتّابا قلقين، يفتقرون لأنفاس طويلة تناسب نصوصا يمكن أن تحضن حياة بأكملها.
الرافضون لهذه النظرية يعطون أمثلة مثل سلمان رشدي الذي كان رافضا تماما لشروط تويتر القاسية واللامنطقية ولكنه دخل تويتر ليصبح “فضاءه المفضل” بعد أن أصبح خروجه للعلن يشكل خطرا عليه، كما يعطون مثالا طريفا عن الكاتب برات إيستون إيليس الذي وفق أحد النقاد “يقضي وقته في مشاهدة الأفلام والمسلسلات وقصف زملائه مثلما فعل مع الكاتبة الكندية أليس مونرو حين نالت جائزة نوبل، إنه “مصاص دماء حقيقي” يخرج من تابوته فقط لينقض على إحدى ضحاياه على تويتر”.أشهر الكتاب هاجموا تويتر تحديدا عند إطلاقه، مثل غابرييل غارسيا ماركيز، مارغريت آتوود، هاروكي موراكامي، وباولو كويلو، وغيرهم كثر، وإن استثنينا من الذين ماتوا فإن الأحياء انضم أغلبهم لهذا الفضاء الأزرق، وانضم لجماعة المغرّدين.
لكن المشكلة ليست هنا، سواء استعان الكاتب بتويتر ومواقع التواصل الاجتماعي ليثبت حضوره اليومي، ويروّج لأفكاره أو لا، فالمشكلة أصبحت كامنة في الأدباء المغرِّدين، أو بالأحرى أولئك الذين صنعتهم مواقع التواصل وأصبحوا “مؤثرين” وكأنّ ما ينقصهم أو بالأحرى ما يعطيهم شرعية ما هو إصدار كتاب يجمعون فيه “الهراء” الذي ينشرونه يوميا لمتابعيهم، ويحتفلون بإصداره مع توقيعه، ببيع أرقامٍ مذهلة تجعل أكبر وأشهر الكُتّاب الحقيقيين، يصابون بالخرس من هول ما يرونه بأم أعينهم.
بين الإغراء والبغضاء يقع الجميع رهينة هذه الشبكة الاجتماعية الوهمية، التي من النادر أن يصمد كاتب أمامها، فقد يدخلها بحثا عن الإطراء بكل بساطة، بنشر مقال كُتِب عنه، أو صورة له خلال توقيع، أو مقطع من مقابلة له على إحدى القنوات التلفزيونية، إنها دعاية شبه مجّانية بأدنى عدد من الكلمات، ومع هذا بإمكانها تضخيم “الأنا” وجعلها تذهب في اتجاه غير متوقع.
نقرأ نصوصا عرجاء، تتعثّر كلماتها بأخطاء غير مقبولة، بلا وزن، بلا إيقاع داخلي، بلا أي إدهاش في المعنى، يسميها أصحابها شعرا، نقرأ أيضا نصوصا تشبه الحكايات العادية التي نسمعها في الشارع وفي المقاهي، بلغة ركيكة ومشوّهة، تتخلّلها عبارات من اللهجات المحكية، وهي للأسف النصوص التي تنال أكبر عدد من “اللايكات” وعبارات الاستحسان، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما على تردّي مستوى التعليم عموما للمتابعين الذين سمحت لهم مواقع التواصل الاجتماعي على إيجاد ما يناسب مستواهم المتدني، كما سمحت لهذه النماذج الضعيفة بانتحال شخصيات كثيرة منها شخصية الكاتب أو الشاعر. من جهة أخرى تأخّر الكُتّاب الجادون باقتحام هذا العالم، أذكر مثلا أن أحدهم كتب على صفحته فايسبوك: “تويتر مغامرة صعبة لا يمكنني الاستمرار فيها، لقد غادرته”. نفس العبارة تقريبا قرأتها عند إحدى الشاعرات قائلة: “هل يجب أن أكون عارضة أزياء لأبقي حسابي إنستغرام شغّالاً؟”.
ترى ما الذي لم يستوعبه سادة الحرف لمجاراة من هم أقل موهبة ووعيا منهم؟ ولماذا رغم تجاربهم الأدبية النّاضجة، وحضورهم الجيد إعلاميا يفشلون في سباق الحصول على عدد أكبر من المتابعين؟
يعطينا نجم البرامج الثقافية الفرنسي برنار بيفو الجواب: “التغريدات هي برقيات غير مختومة، وهي تتطلب الدقة والإيجاز فقط”. إبن السابعة والثمانين لديه مليون متابع، وهذا الرقم لم يبلغه أشهر كاتب فرنسي حاليا، غيوم ميسو الذي يتابعه سبعين ألف وخمسمائة شخص، ولا إيزابيل ألليندي البعيدة أيضا عن المليون، والأمثلة غير قليلة إذا ما أردنا أن نقارن بين كبار الكُتّاب وكُتّاب السوشل ميديا.
الأمريكي بريت إيستون إيليس الذي يصفه النقاد بأقسى الأوصاف الشريرة، يعتبر تويتر “مختبرا أدبيا حقيقيا” حتى أنه طلب من متابعيه أن يقترحوا نهايات لإحدى رواياته، فيما هناك كاتب آخر هو تيري كروزيت أنجز كل روايته على شكل تغريدات بمعدل 5200 تغريدة في خلال سنة وأربعة أشهر ثم أصدر روايته. بعدها بسنة دخل تجربة جديدة تماما حيث انقطع عن العالم فاصلا الأنترنت لمدة ستة أشهر وكتب روايته “أنا غير متصل” وهو بذلك أرسل رسالة قوية للمتفاعلين عبر الشبكة وهي أن الكاتب يكون أكثر انتاجا حين يكون غير متصل، مشيرا إلى أن جودة النص تكون أفضل في حالة الابتعاد عن الأنترنت ومواقع التواصل، مع أن الأمر صعب تطبيقه في زمننا، فالعالم الأدبي صنع لنفسه مكانا على فايسبوك وتويتر واسنتغرام، للترويج والتوسُّع، أما ظهور النوع الهابط وطبقة من القراء السطحيين عالميا فهي من الظواهر التي قد لن تدوم، لأسباب عديدة أولها أن هذه الشبكة حفّزتنا جميعا على الكتابة، ونحن لا نزال في بداية التجربة قبل بلوغ مرحلة النضج، فكل هذه الأجيال الجديدة التي تفضل التخاطب كتابة، حتما ستطوّر نفسها، ولن تتوقف عند هذه البدايات.
تمنحنا هذه المواقع أيضا فرصة كتابة أفكارنا فورا، ولهذا يمكن اعتبارها أجندة جيدة لتدوين وتخزين كل الأفكار التي تخطر على بالنا دون الخوف من فقدانها بسبب إيقاع الحياة وانشغالاتها. أغلب آثارنا يتم توثيقها، وهي باقية ما دامت الشبكة تعمل.
من جهة أخرى تقول إحدى كاتبات “السوشل ميديا” أن أهم نقطة إيجابية في هذه المواقع هي التشجيع الذي لاقته من متابعيها، وقد أدركت بعد نشر كتابها الأول أن النقد في الصحف كان أقسى مما توقعت، لهذا فهي تنوي إصدار كتاب ثان أكثر اتقانا، كشكل من أشكال التحدي.
على الشعراء أيضا أن يكونوا أكثر امتنانا لهذه المواقع، فقد نفضت الغبار عن شعرهم الذي مرت عليه فترة ركود طويلة حتى أصبح أكثر نتاج مرفوض من قبل دور النشر والقراء سواء.
هذه أسباب كافية لبروز أدب تويتر وانستغرام وفايسبوك. صحيفة النيويورك تايمز ابتكرت مصطلح عصر ال instapoets، ففي الوقت الذي كان فيه الشاعر يحلم فقط ببيع طبعة من كتابه تتألف من خمسمائة نسخة، أصبح من الممكن بيع آلاف النسخ لثلث متابعيه إذا كان نشاطه جيدا على مواقع التواصل.
وفي الأخير لا بد من قراءة ما كتبه محرر في مجلة الشعر الأمريكية: “هذه المنصات رائعة للشعراء الذين همشتهم الثقافة السّائدة”.
والأمر نفسه قد ينطبق على فنون كثيرة كانت تحتضر في الماضي القريب لولا ظهور هذه المواقع التي منحت فرصة للجميع للتعبير بكل لغات العالم. والصراحة الأدب “طلع كسبان ومش خسران” عكس كل توقعاتنا.