كان ذلك هو أول ميت أراه. فحين كنت ورفاق آخرون في وقفة تضامنية مع المصرفيين في يوم الجمعة الموافق للرابع والعشرين من أبريل 2010 ضد الفصل الذي طال العديد من المصرفيين والآخرين المهددين بالفصل في مختلف البنوك، وأثناء الهتافات المنادية بوقف تلك الإجراءات المجحفة والظالمة بحقهم، ما كان من جليل الحوري وهو القادم للتو من ألمانيا هو ورفيق دربه المناضل عباس عواجي الاّ وأن يأتي بالباص للمساهمة في تلك الوقفة التضامنية رغم عذاباته وثقل مرضه.
هذا النقابي الحقيقي العتيد وهو يعاني من مرض القلب، والمطلوب منه أن يرتاح بعد العملية التي أجريت له في المانيا لم يعبأ بكل ذلك، فجاء ليتضامن مع رفاقه العمال قرب المرفأ المالي، وأثناء ذلك كما لو أن حماساً مباغتاً قد بعث فيه روح الحياة وأيقظت فيه الحميّة العمالية المتأصلة فيه استيقاظاً، فأخذه الإندفاع وبدأ يصرخ بأعلى صوته وبتلك الحنجرة الملتهبة منفعلاً ليسقط أمامنا دون حراك ونـحن فاغرو الأفواه من وقع ما حدث غير مصدقين ذلك وما من أحد توقع حجم تلك المأساة ولا أحد تخيلها، فبتنا موزعين بين الخوف على حياته والأمل في نجاته.
كانت صرخة جليل في ذلك اليوم صلاة جنائزية بشحنة عاطفية مُروعة تُوجت بوفاته بتلك الصورة غير المتوقعة. الشئ الذي أتذكره بشئ من الدقة بأنه سقط وهوى كما لو كان شبحاً من العالم الآخر، وجه شاحب فقد كل ملامحه سريعاً، يدان قويتان قد تراخيتا وصوته الصادح قد انطفأ، العينان الجامدتان رائقتان تنظران إلينا بأسى كما لو أنهما تريانا.
أول ما خطر لي في جلال الحالة ماذا علينا أن نفعل، فبتنا متيقينن أنّ ما قام به جليل الحوري في ذلك اليوم من حماس وجدنا في ذلك الهتاف شيئاً فوق طاقته لابد وأن يؤدي به إلى التعب لا محالة ونـحن الذين نعرف وضعه الصحي السئ والمتعب جداً. فجأة اهتز شيء عميق فينا، غرقنا في صمت مهيب، حبسنا أنفاسنا خلال تلك الساعات التي بدت لنا طويلة، وما عاد ذاك الحشد يعرف ما عليه فعله وغرقنا في سلسلة من الاحتمالات والفرضيات كان أقساها احتمالية الموت.
يا إلهي إنّ هذا ليبدو كابوساً، إن تلك التراجيديا التي مرت عليّ شيء يستقر في وجداني وينحفر لا محالة في حياتي للأبد بفعل ما رأيته وعايشته عن قرب. منظر مُهيب ورهيب ومهول ومُبكي أن ترى رفيقاً لك يسقط أمامك وأنت لا تستطيع أن تقدّم له يد العون والمساعدة.
كان جسده ممداً دون حراك على الأرض والكل في حالة خوف وذهول وصدمة ممزقي القلوب والأفئدة مذعورين نود أن نصرخ لكنّ صرخاتنا بقيت في حناجرنا ولم تخرج بفعل الصدمة.
أذكر ذلك اليوم بكامل تفاصيله. كان يرتدي قميصاً أبيض وبنطلوناً عادياً أقرب إلى السواد وفي يده منديل يحتفظ به لتجفيف عرقه مع عصاة يتكئ عليها وقت الشدّة. انتابني شعور منذ أن تذكرت تلك الحادثة بأن عالماً كاملاً كان نائماً واستيقظ في ذاكرتي بقوة وبشكل فجائي.
جليل الحوري عامل ومناضل جسور وصلب وشرس عرك السجون بسبب مواقفه المبدئية في الدفاع عن الطبقة العاملة، قضى حوالي خمسين عاماً في معترك العمل السياسي والنقابي من عمره الذي ناهز 68 عاماً. هناك في ذلك المكان المشؤوم أمام المرفأ المالي ممثلا في أباطرة المآل والأعمال وقف العمال قبالته وحناجرهم تصدح بالشعارات والأهازيج آملين أن يسمع صوتهم من في ذلك المبنى الشاهق، وقف جليل رابط الجأش شامخاً يشجعهم وبحماسة تفوق التصوّر، قفز صوته إلى مدى غير منظور وصل لعنان السماء، زلزل من في المرفأ فكان صداه يتردد في أقبية مكاتبهم الوثيرة.
لم يتخل جليل الحوري ولم يتخلف يوماً في حياته عن أي إضراب أو مسيرة أو اجتماع يخص العمال الاّ لأسباب قاهرة، فكان نموذجاً لا يتكرر من المناضلين العمال المميزين النادرين الذين قلّ مثيلهم. فطينة من طينة أبي منير معجونة من حبّ لا مثيل له للعمال والكادحين، فقد سقط شهيداً دفاعاً عنهم بكل إباء وشجاعة ومروءة ودفع ثمن ذلك حياته وهي أغلى شيء لدى الإنسان.
لقد كان يعرف بأن قيمة الإنسان كامنة في شيء واحد فقط وهو أن يعيش ويموت بشجاعة دون التنازل بقبول أي جزاء من أحد، وسلك طريقاً أحبّه حتى الموت فجسد ذلك عملياً بصمت وصبر وثقة وحبّ وقد قرّ قراره على المضي قدمًا حتى النهاية رغم ما يعانيه من أمراض فعاش ومات متمسكاً بالمبدأ ذاته ألا وهو العمل مع العمال والموت في وسطهم ومن أجلهم وهذه كانت امنيته ويا للقدر فقد تحققت كما أراد.
لاحقتني تلك الرؤية لجليل وهو يلفظ آخر أنفاسه سنوات كثيرة من حياتي مثل حلم مجهول وخيالي يطل عليّ بين الحين والآخر بوجهه الضارب للحمرة وصوته الجهوري النابع من صميم قلبه المجروح والمُتعب والمملوء هماً وغضباً وأسى. إنه بالنسبة اليّ اليوم الذي لا يُنسى.
لم أع في الحقيقة مأساة موت جليل الحوري الأّ وأتذكر جحود موظفي تلك البنوك المهددين بالفصل الذين لم نر منهم أحدًا في تلك الوقفة التي حُشد لها للتضامن معهم ومن أجلهم. أشعر بعد كل تلك السنيين بخيبة الأمل وبالخسارة على رفيق فقد حياته وفي قلبه غصة وغبن وحزن وألم لعمال تنازعوا وفشلوا وذهبت ريحهم.
الموت الأسطوري لجليل الحوري بقي في ذاكرة الجميع، وكأنه وداع لمرحلة ذهبية من العمل النقابي الحقيقي البعيد عن الطائفية والمصالح الأنانية الضيقة والتي ما عاد للعمال صوت قوي يجابهون به الشركات والمؤسسات التي تمتص عرق جبينهم بنهم دون هوادة بفعل تفرقهم وشرذمتهم والتمسك بالمناصب على حساب الدفاع عن منتسبيهم التي تهضم وتقضم حقوقهم يوم عن يوم. إن أيّ حلمً بتغيير عميق لواقع الحركة العمالية، مات جليل لأجله قد تبخّر للأسف الشديد بفعل وجود قيادات عمالية تتخبط في مستنقع الطائفية البغيضة.
سيظل جليل في قلوب العمال للأبد شعلة للنضال والتضامن العمالي من أجل طبقة عاملة موحدة تصدح بصوت واحد في مواجهة الظلم والطغيان والاستغلال الطبقي، وستبقى حادثة موته شاخصة إلى الأبد لعامل استرخص موته دفاعاً عنهم ومن أجلهم، ولاقى مصيره المأساوي بكل شجاعة.