شيء من تجربتي في “بي بي سي”

0
166

في عدة دقائق توظفت مراسلة للقسم العربي بهيئة الاذاعة البريطانية بي بي سي. جاء المذيع الراحل سامي حداد ينشد مراسلا للمحطة العريقة، أديت اختباراً بسيطاً وسريعا أمامه في صيف عام 1988 لاختبار اللغة والصوت، وفي اليوم الثاني أعددت تقريراً عن خطة شركة الاتصالات “بتلكو” للتطوير المستقبلي، وفي المساء ضبطت موجة الاذاعة ورحت أنتظر سماع التقرير عند الساعة السابعة مساء، هل يوجد صحفي ينتمي لصحافة متواضعة كصحافة الثمانينات لا يفرح لانضمامه لمحطة عالمية؟

أول كتيب ارشادي تتعلمه وتتدرب عليه في هذه المحطة بوصفك مراسلاً خارجياً هو كيفية التغطية الآمنة من بلدك وكيف تقي نفسك من الأخطار عبر الالتزام بالأطر والمعايير الإعلامية للصحافة الحرّة وأهمية تحري الدقة والمعلومة الصحيحة خصوصا في البيئات غير الصديقة للديموقراطية والمشاركة الشعبية، وقد مارست العمل في جو آمن ومريح نسبيا لعدة سنوات قبل اندلاع أحداث التسعينات وما تضمنته من عرائض واحتجاجات وعنف وقتل وحرائق وتفجيرات.

إن قصتي مع اذاعة لندن ذات اتصال وثيق بأحداث التسعينات، فمن البداية اوردت المحطة في تقاريرها الأولى أن المطلب الأساسي للحركة هو العودة للبرلمان المنحل وتفعيل دستور 1973 المعطل استناداً إلى العرائض الشعبية التي أطلقها النشطاء السياسيون في البحرين بعد غزو الكويت وانطلاق أصوات ومبادرات عديدة في البحرين والخليج تطالب بالإصلاح السياسي واشراك الشعوب في اتخاذ القرار، وذلك قبل أن ينجرف الشارع إلى العنف لاحقا فأقع انا “المراسلة” بين مطرقة الحدث الصاخب وما يتطلبه من تقارير شمولية ومتوازنة وحذرة وبين سندان الرقابة الصارمة والإعلام الرسمي ذي البعد الواحد، وقد كانت اذاعة لندن مثلها مثل بقية وسائل الإعلام العالمية وقتها على تواصل مع المعارضة في الخارج والأهالي في الداخل وتستقي أخبارها من جميع المصادر.

أما الجانب الرسمي فبعد طول صمت ونكران ظهر للإعلام الداخلي والخارجي واصفا المحتجين بأنهم دعاة عنف وتخريب وفتنة وانقلاب على السلطة وليس دعاة ديموقراطية، وان وراء الحركة تدخلات خارجية، وان البحرين تنعم حالياً بالأمان والاستقرار والتنمية الاقتصادية، وان مجالس الشيوخ مفتوحة للشعب، ولا تحتاج إلى البرلمان أو “البرطمان” كما كان يسمى لدى كتّاب السلطة.

القصة الخبرية المتعددة الأبعاد والآراء ظلت عصيّة وبعيدة المنال في صحافة وإعلام ما بعد حلّ البرلمان في 1975 في البحرين، فقد هيمن قانون أمن الدولة وأصبحت الصحافة مقيّدة ومحاصرة وتضيق ذرعاً بالرأي الآخر ضاربة بعرض الحائط معايير ومقاييس وأطر التغطية الإعلامية الصحيحة، وخضع جميع مراسلي المحطات والصحف الخارجية كل من موقعه – وانا من ضمنهم – لمضايقات ومسائلات وانذارات ما حملهم على التخلي عن وظائفهم طوعاً أو قسراً.

تقاضيت 20 جنيهاً استرلينياً عن كل تقرير، ثم كبر المبلغ مع توالي السنوات وأصبح 40 جنيهاً. تعجب وزير الإعلام الراحل طارق المؤيد حين أخبرته بالمبلغ الذي أتقاضاه، وقال: هل يستاهل كل هذه الانذارات والاستدعاءات والتقريع الذي تتلقينه مني؟

قلت له: يستاهل إذا كنت تعمل في إذاعة بي بي سي.

حراك التسعينات الذي شهدته وغطيت أهم أحداثه تمت تغطيته بالكامل من قبل الإعلام الأمني وحده، وما على الصحف إلا نشر المانشيتات والقصص الخبرية القادمة من مصدر واحد، ولهذا فقد سعت وزارة الإعلام إلى ضّم المراسلين جمعيهم إلى دائرة الإعلام الحكومي، وحمله على تبني السردية الحكومية للحدث، في حين تم اعتبار المراسلين المستقلين صوتاً نشازاً ومزعجاً في هذه المعزوفة، فلم يتوفروا على المعلومات ولم يسمح لهم بحضور المؤتمرات الصحفية أو المحاكمات العسكرية المغلقة، بل إن مجرد الالتقاء بأهالي المحكومين اوالمتهمين او محامييهم تعدّه الحكومة عملاً عدائياً يستوجب العقاب.

تريد وزارة الإعلام تقارير أحادية الجانب ورسمية كالتي تبثها أجهزة الدولة من اذاعة وتلفزيون ووكالة أنباء وصحف شبه رسمية، أما الرأي الآخر فلا تعترف به في أعرافها وصحافتها تماماً كما يحدث الآن في صحافتنا الورقية وأجهزتنا الرسمية التي انصرف عنها الجمهور إلى الصحافة الرقمية والتي ارتضت جميعها تسويد صفحاتها بالمادة التحريرية الجاهزة التي تصلها من مركز الاتصال الوطني، وأقول إن محنة المراسل الخارجي تعرض لها كل المراسلين الذين عملوا في صحف ووكالات أنباء عالمية في ذلك الوقت ،حيث جرى اغلاق مكاتبهم بعد وأثناء أحداث التسعينات مثل مكاتب رويترز والألمانية والفرنسية والأسوشيتد برس، ولعلنا نذكر بهذه المناسبة زميلتنا اوتا مراسلة الالمانية التي جاءت الاوامر المفاجئة بإغلاق مكتبها وتسليم مفاتيح بيتها ما اضطرها لبيع اغراضها في 24 ساعة فقط لأنها بثت تقريراً اوردت فيه تصريحا لحركة احرار البحرين المعارضة في لندن.

في العام 1996 كانت البحرين تحتضن قمة مجلس التعاون الخليجي، واستضافت عددا من مراسلي الصحف والإذاعات الأجانب، وفي صباح أحد ايام القمة ترك مراسل اذاعة لندن الفندق حيث تجرى القمة واستقل تاكسيا وذهب إلى القرى لإجراء استطلاع حول الأحداث السياسية، وقبل أن يعود إلى الفندق وقبل أن يبث تقريره، كان أمر أمني قد صدر بطرده.

واحتفظ في ارشيفي برسالة بعثتها وزارة الخارجية البحرينية عام 1996 إلى السفير البريطاني في البحرين تشكو فيه من التغطية الاعلامية للقسم العربي بالإذاعة حول البحرين والتي تعتبرها غير دقيقة ومنحازة و”معادية “ وجاء في رد “بي بي سي” إن المحطة تفتح أبوابها لسماع لكل الآراء على اختلافها وتتفاعل ايجابا مع النقد الموجه لها وتسعى لتصحيح أخطاءها وتقويم مسارها، وأشارت في ردها على الرسالة إلى عدة تقارير بثتها عن البحرين ذات طابع حيادي ومتوازن، لكن حكومة البحرين أو وزارة الاعلام حسب قولها هي التي ترفض المشاركة في البرامج والأخبار والتعليقات بأي رأي رسمي مما يتيح للمعارضة أخذ الحصة الأكبر في التغطية، كانت سياسة الحكومة في البداية تقوم على نكران وجود أزمة أساساً، ثم عندما اعترفت بوجودها لاحقاً كان الشارع قد اشتعل وخرج عن السيطرة فتم وسم الحركة بوصفها ارهابية انقلابية تخريبية مدعومة من الخارج.

خلال انتظاري في وزارة الاعلام لأخذ حصتي من التوبيخ والتقريع والتوجيه، كان هناك مراسلون آخرون غيري ينتظرون دورهم بعد أن اصبحت أحداث التسعينات مادة خصبة ومثيرة في الصحافة ووكالات الأنباء الأجنبية والعالمية والبرلمان الأوروبي والإنجليزي ولدى المنظمات الحقوقية والعفو الدولية المنددة بالاعتقالات والمحاكمات العسكرية، أما إعلامنا المحلي فقد ظلّ مجرد متلقٍ للتقارير الرسمية الامنية فقط، “شاهد ماشافاش حاجة”. تمّ احكام السيطرة في الداخل، لكن لم يستطع المرحوم طارق ولا من جاء بعده السيطرة على الإعلام الخارجي.

إذاعة لندن ناطقة باسم المصالح البريطانية والغربية لا شك في ذلك، بيد أن انحيازها لا يمنع ولم يمنع يوما من رفد التقارير والقصص الإخبارية والتحليلات السياسية بالرأي الآخر المخالف، فهذا هو المبدأ الأساسي والجوهري في الإعلام، وليس بإمكان أي وسيلة إعلامية حقيقية أن تحيد عنه.

وكانت تقاريري الحذرة المدروسة والمنتقاة بحرفية وعناية تتراوح بين رضا وزارة الاعلام مرة وغضب الجانب الشعبي مرة اخرى، فيوم يراها البعض تميل صوب الحكومة ويوم آخر يحدث العكس. إن كلمات مثل “حوار” أو “برلمان” أو “اصلاحات سياسية ودستورية ” كانت شبه محظورة وممنوعة من التداول تماماً، ذلك أن الجانب السلمي في الأحداث تم طمسه تماماً، بينما تم ابراز عنف الشارع والحرائق والتفجيرات، ومع الوقت نسي الناس الأولى وتكرست الصورة الثانية.

وإذا علت موجة الاحتجاجات والتوتر اقترح على الإذاعة التزام الصمت مؤثرة السلامة على نفسي إلى أن تهدأ الموجة، وفي الغالب تلجأ الاذاعة إلى إجراء المقابلات مع النشطاء السياسيين ومع الناس ومع أهالي السجناء والمعتقلين وطلاب واكاديميي الجامعة والمحامين وزعماء الحركة وقادة العرائض الشعبية وغيرها، أو تبعث مراسلاً خاصاً كما حدث عام 1997 حين وصل إلى البلد صحفي من “بي بي سي” أجرى استطلاعا شاملا والتقى عناصر من الجانب الرسمي والمعارض وانجز فيلما تلفزيونيا بثته فضائية “بي بي سي” الناطقة بالعربية، في ذلك الوقت ولم يرق للحكومة.

في مطلع عام 1998 زار رئيس القسم العربي جيمون ماكليلين البحرين وتحدث إلى وزير الاعلام فأخبره الأخير ان تقارير مراسلتكم “عصمت الموسوي” لا تعجبنا ونقترح تعيين مراسل أو مراسلة اخرى وفق اختيارنا.

وقد تركت الاذاعة عام 1998 واختير الاعلامي الراحل محمد الشروقي خلفا لي ثم اعلامي آخر، وكلاهما كانا موظفين في وزارة الإعلام، فالتزما بالخط الرسمي في التغطية، وبدت المادة الإعلامية التي ينقلونها صورة طبق الاصل لما يبثه اعلام الحكومة، ولاحقا استعاضت المحطة عن فكرة المراسل المحلي فعينت صحفيا بريطانياً متفرغاً يقيم في دبي ويغطي أخبار منطقة الخليج ومن ضمنها البحرين.

أعتبر فترة عملي في “بي بي سي” من أصعب ما مررت به من تجارب وفي مرحلة سياسية حساسة وشديد التعقيد، وقد اجتهدت لنقل الأحداث بأمانة ملتزمة المعايير المهنية والحياد واحترام الرأي الآخر، وأنجزت إلى حدٍ ما اختراقا في منظومة العتمة الإعلامية المحكمة في ذلك الوقت. أعتز بهذه التجربة وأتمنى أن يسعفني الوقت والحماس لتوثيقها في كتاب أشمل، فقد انطوت على العديد من القصص والمفارقات والتي لا يسعها هذا المقال الموجز.