تتحقق متعة الحضور إلى المسرح حين تذهب بلا تحضير أو خلفية مسبقة إلى عرض مسرحي، وتألفه فوراً، وتنسجم مع أحداثه. يضاهي هذا الشعور متعة الفوز بجائزة غير متوقعة وأنت تمشي في طريقك إلى مكان ما. وجدت هذا الفوز مؤخراً في العرض المسرحي “خطة كيوبد”، الذي تجتمع فيه عناصر مشبعة عدة أوصلت مضمونها بخفة لا تتكرر كثيراً في استجداء الضحك أو اجترار النكت والمواقف التي يعرفها الجمهور، أو يتوقعها؛ فلا تُضحكه، ويخرج بنتيجة عكسية ربما.
“كيوبد/ cupid ” هنا، أو رسول الغرام الذي عرف في الأساطير الرومانية القديمة، عاد من جديد في هيئة غير التي يعرفها العشاق في منتصف شهر فبراير أو طول السنة، حين يظن أي اثنين ارتبطا ببعضهما أن سهم كيوبد قد نفذ صوب قلبيهما؛ ليجتمعا إلى الأبد، كما تصور الفكرة المعروفة لإله الحب هذا. وقد يكون الأمر بهذه السهولة أحياناً، لكنه غالباً: لا!
ذلك إنه الواقع الذي تتكسر عنده أحلام الحب الهشة. وكيوبد، ابن آلهة الحب والجمال “أفروديت” هنا لا يظهر كصبي صغير بجناحين وعينين معصوبتين، ليصوِّب سهمه العابث نحو أي اثنين ليقعا في الحب الأبدي، كما تحكي القصص الأسطورية، بل يظهر بالشكل البشري؛ وهو كهل متقاعد، امتهن وظيفة تشبه ما يفعله “أسامة منير”، المذيع المصري الشهير بحل مشاكل الشباب العاطفية في برنامجه الإذاعي؛ يتحدث بذات الهدوء، وبنفس نبرة الصوت المطمئنة لمتصليه من الجنسين. الفارق فقط أن كيوبد المتقاعد خارج -فعلياً- عن الخدمة، وكل ما يفعله هو محاولات استرجاع مهارته القديمة، وهذا لا يحصل بالصورة التقليدية المعتادة، لكنه يقرر التدخل حين يخص القرار ابنته الوحيدة وابن أخيه الذي قام بتربيته ورعايته منذ الصغر.
وقبل الدخول في تفاصيل “خطة كيوبد”، تجب الإشارة إلى أن العرض قدم في قاعة يوسف إدريس في مسرح السلام بالقاهرة، حيث تم افتتاح القاعة بعد سنوات غلق طويلة، وغير مبررة، لتقديم العروض ذات خصوصية الجمهور المحدود، وهذا يعني أيام عرض ربما أطول من العروض في المسارح الكبيرة التي تتسع لمئات، ولكن في الحالتين تكون الجودة هي معيار استقطاب الجمهور من عدمه. وتأتي هذه القاعة بجهود حثيثة من الفنان محسن منصور، مدير المسرح الحديث، الذي تبدو لمساته واضحة في التحديثات التي طرأت على مسرح السلام بشارع القصر العيني. وتقديم العروض في قاعات، أو أمكنة محدودة الحضور، له اشتغالاته واستخداماته لو كان للمخرج وعي بماهية عمله، ولِمَ عليه اختيار مكان آخر غير العلبة الإيطالية المعروفة، وما التأثير الذي يمكن أن يحصل عند الجمهور؟ ولا يمكن إغفال أن اختيار أماكن العرض الصغيرة في كثير من العروض، تكون خاضعة لمزاج المخرج في التغيير وحسب؛ رغبة منه -ربما- في التفرد والمغايرة، لعل هذا يجعل من عمله واسمه المقترن به مميزين، وقد لا يحصل أي من هذا، لأن العمل ببساطة لا يحتمل أي إطار غير الشكل المعتاد.
القرب له حميميته التي يرغب المخرج أن تشتبك مع الجمهور، ولو بشكل مادي أحياناً، فتكون المسافة مبررة جداً، إذ تقرب العرض من المتلقين الذين يشاهدون المشاعر الصادقة في تعابير الممثلين، بين كوميديا خفيفة لأحداث واقعية، ولكن مشتبكة مع الخيال، في لعبة مسرحية تمتد لساعة من متعة لا تمل، وحيث إن كيوبد هنا قدم في أربع شخصيات رئيسية متواجدة معظم وقت العرض في المكان، وطبيعة الحدث التي لا تتطلب الكثير من الحركة. كيوبد وزوجته “هيرا” التي أتت بلا خوارق، أو ما يميز أنها زوجة إله الحب الروماني! تمثل نموذج الزوجة التقليدية؛ الحبيبة، الغيورة، الأم، والحماة أيضاً، والتي أنقذ زوجها المسرح من موهبتها الميلودرامية المفرطة! والخطيبان: الابنة وابن الأخ في شكل العلاقة المعتادة بين أي طرفي حب بعد جذب وشد، كلها مشاعر لا تخلو من الظرف المحبب والنص البسيط في فكرته وتنفيذه، وبالتأكيد لا تقرن البساطة هنا بعدم العمق، بل بعدم التصنع الذي يثقل أي عرض على المسرح، ولو كان مكتمل الأركان.
في “خطة كيوبد”، تجتمع عناصر عديدة من أجل قيام عرض مشبع؛ أداء سلس، وإيقاع متزن محكوم ومنضبط، حيث لا مجال للملل على الإطلاق، وانسجام جماعي يشعر به الجمهور الحاضر، وقبلها أداء فردي متميز بتمريرات الممثلين لبعضهم، كلعبة فريق واحد في مباراة كرة قدم ممتعة، ظهر في الأداء الجماعي قطعة واحدة غير قابلة للمفاضلة بين ممثل وآخر، والممثلون الأربعة حريصون على “الهارموني” الجميل الذي يحفز كل منهم على إظهار أفضل ما لديه.
وكيوبد، حينما يقرر العودة إلى عمله، لا يبدو بتلك المهارة التي عرف بها، لكنه يحاول أن يستخدم خبرته القديمة في رأب الصدع بين الحبيبين دون جدوى، فيقرر الهدم، وإعادة البناء من جديد، حيث يطلب من “هيليوس” التقدم لابنته “سيلين” مرة أخرى، ليتعارفا، وتتم خطبتهما كأنَّهما لم يعرفا بعضهما من قبل، حتى يتأكد الطرفان المعنيان، ويتأكد هو بوصفه ولي أمر الخطيب والخطيبة، أنهما صالحان لتكملة الحياة معاً، وأن رابط الحب يمكن أن يكون بيتاً دافئاً وحنوناً. ومن هنا تأتي المفارقات، بسبب المعلوم وغير المعلوم لدى الخطيبين، ولدى الأم والأب أيضاً، وتكون الكوميديا التي أداها الجميع على خط متوازٍ من الحضور الجميل، وفي انسجام واضح بينهم.
لم أفهم الفكرة اللطيفة التي دعت المؤلف عبد الله الشاعر إلى الاستعانة بشخصية “كيوبد”، وتسمية الأبطال بأسماء آلهة إغريقية ورومانية أخرى، مثل النور والضوء والقمر، أو تحمل مهابة معينة لشخصيات ذات تاريخ! بينما لو سمّاهم المؤلف بأسماء محلية -على سبيل المثال- فربما تعطي بعداً أعمق لارتباطها بـالواقع ومشاكل الواقع. لكن المؤلف ربما رغب في مزج أيقونة الحب في مسرحية تناقش قضية الحب ومتعلقاتها، وطالما الأمر كوميدي، فالشكل الفنتازي مقبول، ولن يكون محل خلاف.
ورغم أن الجمهور تقبل الفنتازيا في وجود كيوبد بذاته على الخشبة، وضحك من فكرة التقاعد والعودة إلى العمل، مع كامل المفارقات المولدة للكوميديا، إلا أن العرض أدخل الحضور في مزاج حزين، بسبب الدموع الصادقة التي كانت في عيني كيوبد وزوجته، بعدما شعرا أن الطريق قد ضاق بالأبناء. فالحريٌّ بعرض خفيف في مناقشته لفكرة الحب، بدون اجترار الشخصيات لأي شكل تراجيدي، ألا يورط الجمهور في خانة الاستعطاف، حتى لو لم تلتقِ السبل بين الحبيبين.
ولا أميل إلى الإشادة المجانية العاطفية، التي نخرج بها بعد عرض مسرحي بنهاية سعيدة نالت إعجاب الجمهور. لكن من باب الأمانة وإعطاء الحق لطاقم هذا العرض المتميز، لا بد من الإشارة إلى حضور الممثلين وأدائهم -على أقل تقدير- بحكم مسئوليتهم أمام المتلقين في التجسيد كما يراها مخرج العرض أحمد فؤاد، وأيضاً بما يشبعهم كفنانين مسرحيين متمكنين. الممثل عبدالمنعم رياض ذو الحضور العالي الملفت على المسرح، وأداء متقن لأكثر من شخصية، مثل دوره في عرض “أفراح القبة”، وما تركه من بصمة مميزة، وكذلك دوره في مسرحية “حلم جميل” بديلاً مؤقتاً عن الفنان القدير عزت زين، حيث يؤكد لنا رياض في الأدوار التي “تلبّسها” في آخر عروضه المسرحية، أنه يستوعب كل الشخصية، ويلعبها بكل طاقته، بدون أن يترك ثغرة أو مستمسكاً، ليقنع الجمهور أنه كيوبد هنا، و”سرحان الهلالي” في القبة، والباشا في “حلم جميل”، في متعة أدائية، ولعب في التنقل بين شخصية وأخرى، لكنه لعب محترف ومتمكن.
كذلك كانت الزوجة نوال سمير، التي لم يسعفني الحظ أن أشاهد لها أعمالاً سابقة، لكن هذا الحضور المتمكن لا يمكن أن يُبنى إلا من خبرة جيدة وتهيئة كافية، للتحولات في المشاهد المتلاحقة، وأيضاً مع الإحساس بالقرب الشديد من الجمهور، وتفاعلهم الحي والمخلص من العرض. أما كريم الحسيني، الذي ربما كان حضوره في الدراما بأدوار متعددة، يفوق أدواره المسرحية، لكن هذا الدور أطّره كفنان متمكن قادر على الأداء المرن، أبرزها المسرح في هذا الدور، ومع هذه المجموعة التي لا يحاول فيها فرد تخطي الآخر، أو محاولة الإشعاع بعيداً عن الثلاثة الآخرين. لكن المفاجأة الأكبر كانت في اختيار البنت أمنية حسن، ذات الموهبة الطاغية؛ حضوراً وغناء -الذي شاركها الحسيني فيه-، والأداء التمثيلي في دور الفتاة البريئة ذات الصوت العذب والتصرفات الطفولية، ثم التنقلات مع خطيبها إلى حيث تتأكد أن خيارها صحيح وفي مكانه، لتنتهي نهاية سعيدة وواضحة يتمناها الجمهور.
عنصران أساسيان آخران: الديكور البسيط المبهج والمسيطر على صغر المكان، ثم الإضاءة المتسقة جداً مع الحدث المتسارع، رغم الثبات النسبي للديكور، والعنصر الذي يعد ممثلاً خامساً في العرض هو الموسيقى الحية التي تعزف وراء الديكور، لكن بشكل يمكن أن يُرى؛ كان متابعاً لأداء الممثلين، ومنصتاً للحوار ليعرف توقيت التداخل فيتداخل ليثريه، عدا أن الموسيقى الحية لو وظفت في العروض بهذا الشكل المصاحب لأصوات جميلة طربية وأدائية ستنقل العرض إلى منطقة أخرى عن السردية الرتيبة، والتي -بالمناسبة- لا تنطبق على هذا العرض، لسرعة التنقلات وضبط الإيقاع بالشكل المناسب.
ومناقشة موضوع الحب في شكله هنا قد يقرن بالبساطة في الطرح، وهو بالفعل كذلك، لكن أهميته في عرضه بدون رتوش أو تعديلات تثقل التركيز نحو الهدف. علاقات الحب قائمة، وستقوم طول الحياة، لكن هذه العقبات الواقعية التي شهدها طرفا العلاقة، وبيّنا أمثلة شائكة في كيفية انتهاء العلاقات العاطفية قبل أو بعد الزواج، وكله مرهون على الأرضية التي إما أن تعبر إلى بر الأمان بكثير من التفاهم والقبول والتنازلات، وإما أن لا تكمل لأسباب لا تعد حقيقة، ومصطنعة، حين لا يكون أحد الطرفين أو كلاهما مخلصاً ليكمل في العلاقة. لذلك من المهم أن تكون “خطة كيوبد” بهذه التركيبة التي تجذب الجمهور، حتى وصل عدد عروضها لما بعد مائة ليلة عرض.
أخيراً: يمكن لعرض “خطة كيوبد” أن يكون عرضاً متنقلاً في مسارح ومناطق أخرى من الوطن العربي، في قاعات صغيرة، أو خشبات مسرح كلاسيكية، ويكون مصدراً لطيفاً لإعادة النظر في الأمور، والتفحص في زوايا أكبر، وإعطاء من نحب فرصة أخرى للحب، ربما تنجح خطة كيوبد في مرة ما!