البحرين بحر العين

0
77

(١)

البحرين بحر العين هذه الصورة الشعرية الخلاقة، هي ما يختصر حقاً جمال هذه الجزر من الخليج، إذ البحر ينتقل لكي يكون البحر الذي تسبح فيه عيوننا، وأود أن أضيف قائلاً: البحر الذي تسبح فيه عواطفنا وقلوبنا وأرواحنا. الذين اتجهوا إلى البحر دون معرفة إمكانية العودة منه ثانية من عدمها، وعندما يعود البحار الى وطنه بعد غياب، يعود كأنه ولد ثانية، وكأنه جاء ليعيش مرة أخرى، بعد أن أيقن الجميع احتمالات غيابه الأبدي، بالطبع هذه المشاعر الجياشة تزداد ضراوة كلما اتجهنا جنوبا، مع الشواطئ المطلة على المحيطات الكبرى، والتي تدفع البحار الرحيل إلى الاقاصي البعيدة في إفريقيا وآسيا. البحرين الجزيرة في بحيرة الخليج، يعود اليها ابناؤها طال بهم الغياب ام قصر، هذه جزر تتمسك حتى الموت بأبنائها، لذلك هي دائما تبدع الرموز، رموز النضال ورموز الابداع ورموز التضحية، بكل ما تهبه الحياة للإنسان من متع الزوال والرفاه.

إنها وحدة النقائض، إذ البحر واهب الحياة واهب الممات أيضا، هكذا ظفر الخليجيون بهذا التكوين الشقي في الحياة، العلاقة مع البحر هي دوما علاقة الرهبة والخوف والفراق وعدم العودة إلى أحضان الأرض ثانية. أما الأرض فهي الأم الحنون التي بأحضانها نعثر على المفقود، ويرحل الإغتراب عنا بعيدا في الغياب. نعود دوماً إلى الأرض ونحن في غمرة الشعور المأساوي بالحياة، وما نحن بحاجة إليه في أوقات مهمة من العمر، كالطفولة والشيخوخة، هي روح الأمومة التي لا توفرها غير الأرض.

الأرخبيل البعيد الهادئ مثلما يبدو لنا هدوء الموج بعد ارتطامه بصخور الأرض، أو بعد استراحة المحارب مع وصوله شاطئ الأمان النهائي، قدّم لنا عبر التاريخ تجارب الشعر الخالد، المتميز بلغة لا نجد لها رديفاً واقتراباً وتشابهاً، أقرب الأمثلة على ذلك جزر الأنتيل االبعيدة، التي لا نعرف عنها غير شعرها الغريب، شعر سان جون بيرس وديريك والكوت وايميه سيزير. الشعر الفائض بملوحة البحر، بهدوئه وصخبه، بما تذرفه النساء من الدمع وما يسكبه الرجال من عطاء العرق والدم، يخرج من حصار البحر هذا الشعر متجهاً في نداء روحي بعيد إلى الكون ،شعر تغذى بذكريات الطفولة ممتزجا بصراع الإنسان مع شقاء الحياة من أجل البقاء في أطراف العالم البعيد،الصامت المسكون بآلهة الشعر ،تتفجر التجارب الشعرية الكبرى، قدر الأرخبيلات البحرية البعيدة المتحدة مع الكون المنفصلة عنه في آن .

ليس أمام أبناء الجزر غير تبوء الصدارة في هذا الصراع، من الجزر ينبت الإحساس الفجائعي، ومنها أيضاً تنبت ارادة البقاء والمغامرة وارتياد المجهول، البحرين هي هذا القلب النابض دوماً بحياة لا نهاية لها، نشيخ ونفنى ونرحل عن الوجود، تبقى لمسات الروح وتجارب العطاء المتجدد، في هذه التربة النابضة بالعطاء الإبداعي الخلاق .

الخليج أرض البدايات الأولى، الحلم الذي عبر عنه الإنسان شعراً، وهوفي التعبير عن ألمه قدّمه غناء شفافا، يذهب إلى جذر الأسى. ماذا يخبئ غموض البحر، وأين تقع أطراف الأرض؟، وهل حقا نعود من الأرض التي أتينا منها، أسئلة ترتبط بالشعر، جوهره وكائناته،غرابة روحه وتطوافه الغامض في بحار لا ندرك منتهاها، هي عزلة الأطراف التي تتجه إلى تجارب إنسانية في جهة الخليج الأخرى، حيث الحضارة الفارسية القديمة، أو عبوراً عبر المحيط الهندي إلى شبه جزيرة الهند وغناء ثرائها الأسطوري .

(٢)

كحلم طفولي ناصع البياض، البياض الروحي الذي لا تشوبه شائبة مرة، كمرارة الواقع الحياتي الذي نعيشه  جميعاً، أسير وتسير بي أمطار ورياح وأعشاب، وكل من طاردني أراه أمامي، في الطريق ثمة ورود حمراء تذكرني بنواح النساء على الموتى، مثقل بالدمع، مثقلة التربة بدماء الشهداء.

نحلم عندما نكون شعراء، نكتب أحلامنا لسكان الكوكب الزائل في رحيله إلى المجهول، علّ الشعر يساهم ولو باليسير في وقف تدحرجه وتحطمه وفنائه، ليكن الشعر القنديل المنير والمعتم في آن، المضيء والمظلم في آن، ينير طرقاً مجهولة ودروباً تفضي حتما إلى الأكوان الحالمة القادمة المتشابكة وطفولتها المفقودة، طفولة الكائن البشري المشوهة، بدمار حروب بائسة لا أرى ثمة نهاية قريبة لها.

لكننا نظل نعيش الحياة في حلم لا نهاية له، ذلك ما يدفعنا إليه الشعر، القدرة على الحلم تعني القدرة على الحب، أي إلغاء النقيض المظلم في الكون، إلغاء الكراهية والحقد والبغضاء، ذلك يقترب بنا من الشهداء والأمهات والاطفال، في عيونهم طهارة  حزينة  تسبق سقوط الدمع،عيون تقترب من البكاء وتحبسه في آن، أتحدث عن الكاهن الذي هرع  جرياً من الجبل عندما رأى  شجرة تحترق في السهل،عيناه باكيتان حزناً، أتحدث عن امرأة هرعت إلينا جرياً في الصحراء، تحاول إيقافنا  ونحن نحاول حرق شجرة في مشهد سينمائي، هذا ما يقدّمه الشعر ليس لبقائنا فقط، بل لبقاء الكائنات الأخرى على الكون أيضاً، الشعر الوثيق الصلة بالعشق، أجمل مبررات  وجود الإنسان في الأرض.

ليكن هذا الرحيل، ليكن هذا الغياب، في الرحيل وفي الغياب يتحقق شرط أساسي لبقاء الشعر،هو شرط البراءة، عدم التلوث البشري، نقاء  صفحة  الشاعر من الألوان الصاخبة صخابة الحياة وشراستها، أسلوب لا يقوم به غير الأطفال، عندما تتحد بهم الطرق مع الموت، والموت هنا الأنغماس في التشوه، ما لا تجيده الطفولة وما يفشل في ارتدائه الشعراء .

ذلك ما يؤكد لنا خلود الشعر، النقيض الذي تحاول طمسه السلطات، العدو الذي يحاول قتله الفاشست، إن لم يكن بالرصاص فبالهراوات وبالفؤوس وبمطارق الحدادين، ومثلما تتسلل إلينا الأيام رتيبة ممعنة التكرار، تتسلل إلينا ليلا مع الريح أجراس حمير الحطابين، وجناة العسل الجبلي  والغجر الراحلين عبر الأودية، إلى لا مكان ينتهي إليه تطواف الليل والنهار .

نبحث عن جذورنا البعيدة، جذورنا المفقودة، لكن ذلك يكتشفه إيميه سيزر من جزر المارتينيك، بأنه كان وهماً، عندما رحل من جزيرته البعيدة في الأرخبيل الكاريبي إلى أعماق افريقيا، بحثاً عن جذوره الإفريقية، لينخرط بعدها في الصراع السياسي، بحثاً عن حياة إنسانية لأبناء المارتينيك. البحث هنا ليس البحث العرقي، هو البحث في جذور ثقافتنا  الممتدة لآلآف السنين من الأعوام، تلك التي نستمد منها الحياة، ونواصل بها السير إلى عالم تمتزج فيه الأعراق، وتتداخل فيه الدماء، يتغذى الشاعر من هذه الجذور، اذ مجايل سيزر وابن جزيرته الفرنسي سان جون بيرس، تستحيل قراءة شعره وخلق متعة جمال صوره  وكشف سحريتها، دون العودة إلى الجزر البحرية التي قضى بها طفولته وصباه في جزر الانتيل الصغرى. العودة إليها كحلم مفقود يدرك الشاعر أنها لن تعود ثانية، وأن ما يكتبه إنما هو أنين فقدانها وألم ضياعها ورحيلها.

كان شعراء الجزر البعيدة قد تحدثوا عن المنفى الجمالي الشعري، الذي حبتهم به الجزر البعيدة في الأقاصي، عبرها قدم شعراؤها الشعر كمنفى جمالي ساحر، يعيش به الشاعر بعيداً عن أكوان الأرض، بذلك تحتدم لغة المواجهة، المنفى يخلق حالة جمالية  تكون بمثابة احتجاج عميق اللغة، على جماجم وعظام ملقية على الإسفلت، تنتظر من يواريها التربة دون جدوى، الساحرة التي زارت الكسندر بطل فيلم القربان لتاركوفسكي في جزيرة معزولة عن العالم، وكان يعيش حالة  يأس تام جراء إصابته بالسرطان وتعذر الشفاء الطبي منه، الكسندر الذي يقضي ليلة كاملة مع الساحرة يشفى تماماً من السرطان، وجراء ذلك يهجر كل شيء  يتعلق بحياته  الرغدة في الواقع المعاش، متجهاً الى عالم سحري يرى تاركوفسكي أن ذلك العالم هو الشعر، النقيض لعالم يوفر لك كل سبل الحياة المدنية، ويسلب منك أغلى ما تحظى به وهو الحب.

هذا المشهد السينمائي الموحي لثيو ان جيو بوليس، من فيلمه منظر في السديم :تطارد الشرطة الأطفال المشردين ،كلما رأت الصبية وشقيقها الصغير سيارات الشرطة، يفران خوفاً، فجأة يرى الطفل من بعيد ممثلاً كوميديا له نفس الروح الطفولية التي يحملانها، يتجه إليه الطفل فرحاً، يخبرانه عن مأساة  هروبهما من الشرطة، التي تتواجد في كل مكان يذهبان إليه، يرحل بهما في دراجته النارية بعيداً، حتى يصلان البحر، يتوقف بهما فرحاً: لقد نجونا، إنه البحر.

المنفى الجمالي الذي خلقه الشعر في الكون، يتخذه الفاشست منافي سياسية في الجزر القريبة أو البعيدة في آن، لدى شعراء ومناضلي جزر البحر الأبيض المتوسط  في اليونان، اتخذ الفاشست من جزيرة ليمنوس سجناً، كان أهم معتقليه الشاعر اليوناني بانيس ريستوس، منها نقل الشاعر لاحقاً اإى منفى آخر في جزيرة ما كرونيسوس، وهي جزيرة لا يسكنها غير المعتقلين والحرّاس، وبها كتب ريستوس اجمل قصائده، التي جاءت تحت عنوان “يوميات المنفى”، واتخذ النظام الفاشي لفرانكو من جزيرة مايوركا، منفى يقذف به كل من يعارض نظامه الفاشي، بحجة إعادة تأهيله النفسي، هناك تذوي حيوات المبعدين شيئاً فشيئاً.


حالة اخيرة أودّ التوقف عندها قليلاً، تتعلق بالمنفي الاختياري  فرناو لوبيز، الذي روعته جرائم الاستعمار البرتغالي الوحشية ضد السكان المسالمين في عُمان وصولا إلى الهند، حيث كان هو جندياً مشاركاً في الحملات التي قادها الفونسو دلبوكيرك، ما جعله يهرب لصفوف الجيش الهندي المقاوم لهجوم البرتغاليين في جوا. أصبح فرناو لوبيز لاحقا موقع تفاوض بين الطرفين ومعه عدد من البرتغاليين الهاربين من الجيش البرتغالي. جرى تسليمهم جميعاً وفق شروط تتعلق بعدم تعذيبهم وقتلهم، غير أن دلبوكيرك فور استلامهم قام بنزع شعر كل منهم شعرة شعرة من الجذور، وأمر أن تملأ جروحهم وآذانهم وعيونهم بالطين، بعدها قام بتقطيع اليد اليمنى وإبهام اليد اليسرى لكل منهم، لاحقاً  رفض لوبيز  العودة بعد تعذيبه إلى البرتغال، وانتهز فرصة وقوف السفينة للتزود بالمياه في جزيرة سانت هيلانة، فاختفى بها وبنى مسكناً ومكاناً متواضعاً للعبادة، مختبأ عن عيؤن الجنود البرتغاليين، فكان اذا لمح سفنهم قادمة أوغل بين الأشجار والحشائش  الطوال، مبتعداً حتى لا يراه أحد منهم. لم يتركه البرتغاليون في حاله، إذ أصر ملك البرتغال على رؤياه، لأنه كما انتشر أنه أصبح كالرجل البدائي في حياته. ذهب فرناو لوبيز لمقابلة الملك، فاقترح الملك إيداعه ديراً للرهبان فأبى، ثم أرسله الملك إلى البابا في روما، فتوسل لوبيز للبابا إعادته للجزيرة فأعيد إليها، وهناك بأصابعه الأربعة ويد واحدة، استوطن أرضاً وربى قطعاناً واستنبت نباتاً وعاش ومات بها وحيداً.

تلك الجزيرة هي سانت هيلانة التي أصبحت لاحقا منفى اجبارياً، يرمي به البريطانيون المعارضين لهم في المستعمرات، أي أنها تحولت من منفى اختياري جمالي سياسي لدى جندي برتغالي هالته وحشية الاستعمار البرتغالي، إلى منفى سياسي  قسري للاستعمار البريطاني، وكان ممن تحتفظ لهم الذاكرة بالنفي بها قادة الهيئة بالبحرين عبد الرحمن الباكر وعبد العزيز الشملان وعبدعلي العليوات .

البحرين وطن صغير في مساحته،عظيم التأثير السياسي والثقافي على المحيط البحري والصحراوي الملتف حوله، تتشكل حوله أساطير الخلود، وتبتعد عنه أساطير نهاية العطاء الإنساني الرحب، لذلك يصطدم هاجس الموت لدى مبدعيه بما هو أقوى من الموت، بهاجس تجدد الحياة وليس بغروبها المبدعون البحرانيون الذين علّمهم البحر لا محدودية العطاء وغموضه في آن .

2 –  أبناء المزن

رغم أن هذا الجزء من الورقة بالأساس عن علاقة الشعر بالصحراء، إلا أنني أود أن أفتتح الحديث،عن تجربة سينمائية فريدة، لمخرج سينمائي كندي هو فرانك كول، ما هو غريب أن علاقة فرانك كول بالصحراء، جاءت إثر وفاة جده، الذي كان يكن له حباً عظيماً، فلجأ فرانك إلى الصحراء علّه يجد بعض العزاء لديها، لأن الصحراء ومثلما فهم لاحقا هي ما تشكل لديه الإمتداد الطبيعي للحياة والموت في آن.

كان فرانك كول أشد المدافعين عن فكرة امتداد الحياة، معتبراّ أن الصحراء هي النفي الرمزي للإنسان بعد انتهاء حياته، وهي تشكل بفضاءاتها الرحبة اللامتناهية مكانا لاستعادة التراث واستعادة حيوات الآخرين الموتى.

إثر وفاة جده  رحل كول الكندي إلى الصحراء الإفريقية على ظهر ناقة، يجوب بها من موريتانيا إلى  البحر الأحمر، والرحلة هنا مع مرور الأيام الطويلة تجاوزت رغبة الكشف والمعرفة، التي تحاصر دائما الرحالة والمكتشفين، إلى رحلة حملت البحث عن أهم ثيمات الوجود. اعتقد كول أن الصحراء هي القادرة فحسب على تقديمها للإنسان، ألا وهي ثيمات الحياة والموت.

استمرت رحلة هذا السينمائي المغامر وحيدأً، إلا مع كاميراته وأشرطته أحد عشر شهراً متواصلاً، حرص على أن يقطعها وحيداً دون دليل، مواجهاً وحده رموز الحياة باتساعها: الحرية اللامتناهية، الفضاءات الروحية، إرادة البقاء. مواجهاً أيضا رموز الموت والتي مع الأسف تمثلت في الإنسان ذاته، إذ في رحلة ثانية له عام 2000، قدّمت له الصحراء التي عشقها وجهاً إنسانياً قاسياً، عندما اعترضته عصابة في شمال مالي وقتلته في أكتوبر من نفس العام.

هكذا تقدّم الصحراء في مواجهة الأسيجة والجدران، هذان الوجهان المتناقضان، وجه الحياة ووجه الموت، وجه الحرية ووجه الأسيجة والجدران، ووجه الأسيجة هو الذي يسود معظم التجمعات السكنية القديمة، خاصة تلك المواجهة للصحراء، البعيدة عن سياج الجبال، يتجلى ذلك خاصة في الحواضر البشرية، البعيدة عن سياج الجبال، في عُمان مثلا منح وأدم، جدران العزلة تلك أوجدران الخوف  كنا ندعوها  حجرة أو سور أو حلة، وتكون مقصورة على عوائل متجانسة  في العرق، تنتمي لقبيلة واحدة غالباً. الخوف من الآخر أو المجهول الصحراوي هذا، أدى إلى تأسيس  منازل دون أبواب أو نوافذ، وكان على سكان هذه المنازل تسلق الجدران دخولاً وخروجاً منها. أما عن شروط التهوية والضوء يكتفى بما نسميه المرق، وهو فتحة صغيرة جداً، تكفي لمرور قليل من الهواء وشعاع من الضوء.

نادرا ما نجد ثيمات تحمل نقائض، وتتغذى بدلالات عميقة متنوعة كالصحراء، ذلك عميق في التراث الشعري العربي، إذ الصحراء هي مكان الشعر الأول، ومكان النبوة أيضاً. ما هو جدير وأسبق لتقديمه في هذه العجالة، الدراسة النقدية الأخاذة للباحث العماني سلام الكندي، والتي حملت عنوان (الراحل على غير هدى، شعر وفلسفة العرب ما قبل الإسلام)، والتي صدرت عام 1988 بالفرنسية، قدمت هذه الدراسة الصحراء كما كتب الفيلسوف آلان باديو، استاذ الفلسفة بجامعة باريس، وطناً للغياب، والشاعر ابن الصحراء إنساناً هائماً يطوي جراحه. يعود إلى الديار بعد شرود غير واضح المعالم، فلا يلقى من أثر الضغائن سوى طلل الرحيل ووشم المنازل تحت الرمال، والشاعر هنا اذن يرى أن الفقد يمكن أن يكون نهائياً، وأن محو الآثار كلي، فالصحراء تضعنا وجها لوجه أمام العدم والحنين في آن.

لقد ألفت الحكايا الشعبية العمانية التيه في الصحراء منذ القدم، التيه الذي يبدأ من خروج الإنسان من بيته ولا يعود إليه، بل يرحل عنه فراراً وهربا كحكاية أمير العيون بالأحساء: ابن مقرب، ابن مقرب الذي تاه بعمُان حتى وصل إلى طيوي، كأنها الجنة الموعودة التي بحث عنها هذا الأمير الشاعر التائه قائلا عندما وصل إليها: طيوي يا نفس طيبي.

إلا أنّ تيهاً آخر اتخذته طفلة عمانية تقترب من الصبا، هي من نعرفها الآن: بنت غربى التي هجرت قريتها المجهولة بحثاً عن أرض أخرى تموت بها، كأن أرض المهد لن تكون أرض الموت، الخروج في كل حالاته هنا يرتبط بعدم العودة ثانية إلى الوطن الجذر، بل الموت بعيداً عنه في أرض أخرى، كالخروج من رحم الأم، وبداية تيه الإنسان في الأرض حتى مماته بعيداً عن تشكّله في رحم الأمومة الأولى.

تذهب طفلة عربية أخرى، هي ما نعرفها الان بكوكب الزهرة، قدّمتها الصحراء العربية قرباناً بالرحيل إلى  الفناء في السماء والخلود بها حتى يومنا هذا. أعود إلى هذه الطفلة/ الزهرة لأن عرب الجنوب عبدوا ثلاثة كواكب هي الشمس والقمر والزهرة، هذه الثلاثية هي التي فتحت الطريق لاحقاً أمام الديانة المسيحية لنشر عقيدتها القائمة أساساً على إفراد مكانة خاصة لثلاثية الأب – الأم -الطفل، مثلما يحلل ذلك الاستاذ فاضل الربيعي، ثم أنّ الزهرة العربية هذه هي عشتار البابلية لاحقاً، وهي أفروديت اليونانية لاحقاً، وهي فينوس الرومانية لاحقاً أيضاً، مثلما يذهب الى ذلك الاستاذ فراس السواح .

هكذا نعود إلى الشرق، إلى الجذر، إلى النبع، لندرك كم نحن صدى يتردد في الصحراء، لخيال الشرق الخالد، شرق الأديان السماوية الكبرى، شرق التيه الروحي، بحثا عن حياة في الموت وبحثا عن موت في الحياة.