في المقال الأخير، قمنا بالإشارة إلى بعض الكلمات الهادفة، من أجل ايصال المعاني المنشودة، ذات الأهمية والدلالة في حياتنا. وقد أتت كلمة المصلحة البحرينية، في أعلى هذه الكلمات وضوحاً وجدارة.
بين الوضوح والتردد، هنالك مسافةٌ واضحةٌ بينهما، ومن أكبر الأخطاء أن نقع في هذه المسافة؛ في هذه اللحظة الحرجة والاستثنائية، على المستوى الاداري والاقتصادي بالدرجة الأولى. هذه المسافة، التي تكبر وتتسع يوماً بعد آخر، وقد أصبحت شديدة الوضوح، في العقد الأخير من حياتنا.
إن الثقافة البحرينية في هذه المرحلة، تُعاني اليوم من أزمة الانتماء، في المصلحة البحرينية والمصلحة العامّة، وفي المواطنة والهوية؛ وهو من نتائج التراكمات الماضية، في الحلول المؤقتة والمواقف المترددة. وهنا نتساءل عن طموحات التغيير المنشودة، في ظل وجود هذه الأزمة، والتي سنحاول البحث عن حقيقتها في هذه المقالة، من أجل الحاضر ومن أجل المستقبل.
عندما نحاول الوصول إلى أسباب هذه الأزمة، نتعرف سريعاً على العقلية التقليدية الكامنة في مجتمعاتنا، والتي نراها من خلال تبادل الاتهامات وعدم تحمُّل المسؤولية، تلك التي تعكسها السطحية المتزايدة في ثقافتنا الاجتماعية.
الطريق إلى النضج السياسي، هو أحد المسارات الرئيسية التي تساهم بتعزيز المصلحة البحرينية في حياتنا، والتي ستوصلنا بدورها إلى ما وصل إليه الوعي البحريني اليوم؛ الذي دخل في متاهات الانتماءات المذهبية والفئوية، من خلال الخضوع والتسليم للقوى التقليدية، التي تعمل على إلغاء العقل وإلغاء الفرد، والرجعية بمجتمعاتنا نحو الماضي وأوهام الفضيلة. ولا ننسى هنا أيضاً، الحداثة التقليدية، التي تتظاهر بالتقدُّم، ولكنها تعكس القيم الفئوية، البعيدة عن الايجابية وقيم المصلحة العامّة.
إن تحقيق الوعي البحريني اليوم، يتبلور من خلال الوعي الثقافي والاجتماعي للمصلحة العامّة، والبرنامج السياسي الذي يغفل عن الجانب الثقافي والاجتماعي، لا يساهم أبداً في تحديث المجتمعات وتطوير المؤسسات؛ لأن الجوانب الأخيرة، هي الدليل الواضح على حيوية البرامج السياسية، للمهتمين والفاعلين، في العمل السياسي والشأن العام.
الثقافة الاجتماعية اليوم في البحرين، لا زالت تعيش حالة التردد وعدم الوضوح في مسألة التقدُّم. وهذه الحالة، تؤثر كثيراً على الوعي البحريني المنشود؛ والذي نطمح منه الكثير من خطوات التقدُّم، في المدنية الراقية والحداثة الهادفة، لخير الحياة والانسان. إن كلمة التغيير من أكثر الكلمات تداولاً في حياتنا، والأقل تفعيلاً في وجودنا. ويعود السبب الكبير في ذلك، إلى هذه الحالة من الجمود والتردد في مبدأ التقدُّم. ومن أجل الوصول إلى الغد الأفضل، يتعيَّن على البحرينيين، الوضوح والمسؤولية في هذه المسألة؛ لأن مفاهيم التراجع والتخلُّف، جاهزةٌ دائماً لأخذ هذه المجتمعات إلى الوراء، والتشابه هنا كبيرٌ جداً، بين التقاليد الاجتماعية وبعض السياسات الحكومية. وبيئة الأمان الحقيقية، تكمن في ذلك الوضوح من القيم التقدُّمية؛ تلك التي يختصرها الوعي البحريني العام، من خلال قيم التحديث والتجديد الدائم.
مكانة الهوية البحرينية أيضاً، قد وصلت اليوم إلى مستوياتٍ متراجعةٍ جداً، ومعالجتها تكمن في فهمها أولاً، والعنوان العام في هذه المكانة، يكون عبر الانتماء والمواطنة. وأما العنوان الخاص في هذه المسألة، فتعكسه المعاني الهادفة، من خلال العمل والانجاز في تعزيز قيم الخير العام، على مستوى المجتمع والدولة. وثنائية الحقوق والواجبات، هي نوعٌ من الالتزام الحضاري، الذي نواجه به الأزمات والتحديات في حياتنا الحاضرة، تلك الخاضعة لمفاهيم الجمود والأنانية.
المفاهيم والأفكار في مجتمعنا الذي نعيش فيه اليوم، قد وصلت أيضاً إلى مستوياتٍ جذريةٍ خاطئة، في الموقف والنظرة إلى المؤسسات الرسمية والحكومية، عبر موقف اللامبالاة والسلبية، من الأداء الحكومي العام وخدمات المؤسسات العامّة. وهذه المواقف، بعيدةٌ عن الايجابية والنقد الهادف. والغايات المنشودة والضرورية في هذه المسألة، تكون من خلال صياغة الوعي الجديد في ثقافتنا البحرينية، أي في ثقافة الانسان البحريني. وهذه الأزمة بالتحديد، تدعمها العادات السيئة والمفاهيم الخاطئة، التي يمارسها الأفراد، داخل وخارج المؤسسات.
إننا اليوم في البحرين، نعيش مرحلة الاختبار الأصعب، من خلال الوصول إلى النهايات الخطيرة، على ضوء تراجع الرؤية الشاملة، الوطنية والعادلة والمخلصة، لخارطة الاستقرار السياسي العام للبحرين؛ والذي نتج عن ذلك، الكثير من الخسائر والأزمات، تلك التي دفعها البحرينيُّون غالياً خلال العقود الماضية. وهذه النهايات، تكمن في سياسات التحوّل الاداري والاقتصادي، نحو مشاريع الخصخصة، التي تهاجم المكتسبات البحرينية والمصالح العامّة. ونصل هنا الآن إلى سؤال المصير، الذي نتوجه به إلى جميع البحرينيين: متى ستبدأ المصلحة البحرينية في ثقافتنا وحياتنا..؟!
الأسئلة الواضحة، هي وحدها اليوم، التي تكفل للبحرينيين الوصول إلى طريق الاستقرار المنشود، في الادارة والسياسة والشؤون العامّة؛ ولا يوجد ما هو أكثر أهمية ومسؤولية من أسئلة المستقبل، من أجل الحاضر والغد الأفضل. هذه الأسئلة التي يصوغها الضمير والعقل، بل يصوغها احترام الحياة؛ من خلال مشاريع التنمية وقيم العدالة الاجتماعية، تلك التي تديرها السياسات الوطنية المخلصة، والمتمثلة في سياسات المصلحة البحرينية.
التراجع الكبير في المصلحة البحرينية، من قبل الوعي البحريني العام، سيؤدي بالمزيد من التكلفة والخسارة في حق هذا البلد العزيز. هذا البلد، الذي لا زال يعيش وفق حسابات الماضي، بدل أن يعيش حسابات المستقبل. هذه الحسابات المليئة بالتعصُّب والكراهية، على المستوى السياسي والديني، والعمل على اجترارها نحو الحاضر؛ لا يساهم بخير البحرين والبحرينيين أبداً، في معالجة الحاضر وبناء المستقبل. والسياسة الايجابية والحكيمة، هي وحدها التي تستطيع مقاربة ومعالجة هذه الأزمات العميقة والصعبة، والتي تحتاج اليوم إلى القرارات النبيلة والشجاعة، من أجل تمهيد الطريق إلى العهد الجديد، المليء بالعدل والخير لجميع البحرينيين.
التاريخ اليوم لا يطالبنا بالذاكرة، بقدر ما يطالبنا بالحيادية والموضوعية، في معرفة التفاصيل والمراحل، والتمييز بين الأوهام والحقائق، تلك التي تبنيها الذاكرة التقليدية والجماعية، والتي يدركها المخلصون البحرينيُّون في التاريخ. وعنوان الاخلاص هنا، هو العدل والانسانية، الذي لا يعرف من المذاهب والجماعات سوى الانسان.
إن التحديات في البحرين، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تخبرنا في كل يوم وفي كل لحظة؛ عن ضرورة المضي والذهاب نحو طريق الخلاص من هذه الأزمات، وهو طريق المصلحة العامّة والخير العام.
المصلحة البحرينية أولاً، هي الغاية والمبدأ، لمسارات النهوض والارتقاء في حياة البحرين والبحرينيين. المصلحة البحرينية أولاً، هي الآمال الحقيقية لمشاريع الاصلاح المنشودة، في الانسان والمواطنة والدولة. المصلحة البحرينية أولاً، هي الرؤية الحكيمة والناضجة، التي ستحمل البحرين والبحرينيين نحو الغد الأفضل. وليس هنالك ما هو أعظم من الايمان بالذات، والاعتماد على الذات، من أجل تحقيق هذه البداية.