في البدء كانت الكلمة، لكن الكلمة كانت في الأصل سؤالاً. كل الأفكار، كل الأشياء، تبدأ بسؤال. السؤال هو السابق، والإجابة هي اللاحقة. تبدأ الأسئلة من أصغر الأشياء، من أبسطها، من أكثرها تواضعاً، وتتدرج حتى تصل إلى الأسئلة الكبرى: أسئلة الفلسفة، أسئلة الخلود، أسئلة الوجود، أسئلة الحب، حتى الطفل وهو يتعلم الكلام، وهو يتدرب على التفكير، يفعل ذلك عبر الأسئلة، يعرف كل الآباء والأمهات تلك المرحلة من أعمار أطفالهم الصغار التي يكثر فيها السؤال الشهير: لماذا؟ وحين نشرح لهم ما نظنه شرحاُ كافياً لفهمهم، يفاجئوننا بأسئلة على الأجوبة. أسئلة الأطفال من أكثر الأسئلة صعوبة، لأن المسافة بين منطقنا ومنطقهم طويلة أو كبيرة.
المجتمعات الحيوية هي التي تزيد فيها الأسئلة على الأجوبة، فذلك دليل صحة وعافية، لأن الإجابة مغلقة ونهائية وحازمة وجازمة، أما السؤال فإنه مفتوح، إنه يشحذ الهمة على التأمل وعلى التفكير وعلى اقتراح الحلول. ما أن نركن إلى الإجابة حتى تنتقي المخيلة، والابتكار. وبمجرد أن نثير السؤال في أمرٍ ألفناه، كعلامة من علامات الشك فيه، نكون قد اقترحنا بداية أخرى للأشياء، كثيراً ما تكون أفضل.
السؤال وسيلة لكسر الصمت، لإذابة الجليد بين الناس، لجلو الغموض، كي تدخل عالم شخص من الأشخاص يهمك أمره أو تتشوق لمعرفة كيف يفكر وماذا يفكر تباغته بسؤال. عديدة هي المرات التي تضعنا الأقدار أو الصدف أو الظروف أمام أناس آخرين، يبدون أمامنا غامضين، فلا نجد سوى السؤال وسيلة للدخول إلى عوالمهم، ومجرد طريقتهم في الإجابة تقدم لنا مفاتيح مهمة لمعرفتهم أو محاولة معرفتهم. وقدرات الناس على إثارة الأسئلة متفاوتة، البعض قد لا يبادر أبداً إلى السؤال، ينتظر من يسأله، أما البعض الآخر فإن المقدرة على الأسئلة غالباً ما تتماهى عنده أو تلتبس بالفضول الشديد. وثمة بشر لديهم القدرة على انتزاع المعلومة منك بأسئلة غير مباشرة، كأن يباغتك أحدهم بسؤال يبدو في الظاهر بريئاً وبسيطاً ومحايداً، ولكنه من إجابتك يكون انطباعاً أو فكرة عن أمر ما يعنيه أو يشغله ولو من باب الفضول. إزاء هذا النوع من الناس تلزم الحيطة والحذر، وأحياناً اللؤم أيضاً.
ثمة أسئلة ذكية وأخرى غبية، السؤال الذكي مثل صاحبة يحرضك على التفكير ويطلق لخيالك العنان، أما السؤال الغبي فيشي ببلادة من يطرحه وضيق أفقه، وثمة أسئلة لا وجود لأجوبة منطقية عنها. إننا كثيراً ما نحار في تفسير تصرف ما أقدمنا عليه، في الوقت الذي كان بإمكاننا أن نتصرف بشكل آخر أو كان يجب علينا أن نتصرف بشكل آخر.
(2)
قديماً قِيل إن الصياغة الصحيحة للسؤال هي نصف الإجابة، وتنويعاً على هذا نقول إن الوعي بالمشكلة هو نصف حلها، لأنه يشكل المقدمة الضرورية للتفكر ملياً في أمر وضع أجندات للحل الذي وإن أخذ وقتاً، فان مجرد وجود هذه الأجندات ومتابعة تنفيذها، يخلق ديناميات مفتقدة في حياتنا العربية، أدى غيابها إلى تخثر الدماء في شرايين حياتنا السياسية والفكرية، أفضت إلى ما أفضت إليه من انفجارات وزلازل، لم تكن العدة جاهزة لمواجهة تداعياتها، وتأمين المسارب الآمنة لها. فما أكثر الندوات والمؤتمرات وورش العمل وحلقات البحث التي أقيمت وتقام في مدننا العربية كل يوم تقريباً، حول قضايا عديدة، ولكن المتمعن في الأمر سيلاحظ أننا ننصرف إلى التفاصيل وننسى الأساس، أو نتحاشاه ونهرب منه. السؤال الكبير الذي يجب أن يطرح هنا: هل تذهب المناقشات في هذه الأنشطة نحو العمق لتفضي إلى نتائج تستحق الدراسة والتمحيص، وتتحول إلى إرادة عمل لدى الحكومات أو حتى المنظمات غير الحكومية، كل في حقل اختصاصه، فلا يعود المشاركون في هذه الفعاليات يكتفون بسماع صدى أصواتهم بين الجدران الأربعة للقاعات التي ينظمون فيها هذه الورش، ولا تذهب توصياتهم إلى الأدراج والأضابير، فنعود بعد حين لنقول نفس الكلام، ونصدر توصيات مشابهة، تزيد أو تنقص، لكنها تذهب إلى المصير نفسه.
جدوى مثل هذه الأنشطة لن تقاس إلا إذا نظرنا بعمق إلى القضايا المطروحة فيها ولما يصدر عنها من قرارات، عبر سن قوانين إصلاحية بعيدة المدى، واتخاذ تدابير في الإطار ذاته وفق إستراتيجية واضحة، وذلك بغية الحد من تناسل الأسئلة اليائسة من قبيل: “إلى أي مستقبل نحن ذاهبون، عن أي تنمية نتحدث، ما جدوى الثقافة وما جدوى التعليم”. ونصف هذه الأسئلة باليائسة، لا من قبيل الاستخفاف بها، فنحن نعلم جيداً مدى دقتها وخطورتها، وإنما من قبيل الإشارة إلى أن كثرة طرحها، من دون مقاربات جريئة لها، يكسبها هذه الصفة.
تزداد الحاجة اليوم لاجتراح الأسئلة الكبرى، في هذا المقطع الزمني الحاسم الذي من الصعب التنبؤ إلى أي مدى سنمكث فيه، حيث يتعين إعادة بناء الكثير من القواعد التي يركن إليها في المستقبل، والحفاظ على ميراث التنوير والتقدم الذي أحرزته جهود وتضحيات ومعاناة أفراد وقوى عملت طويلاً لتأسيس وعي ومعرفة، قبل أن نداهم بطوفان الثقافة الاستهلاكية التي تحتفل بالمظاهر وتفصل بين الوسيلة والهدف، وبسطوة التيارات المحافظة التي تطمس الجوهري في الدين، لصالح منافع براغماتية تزداد انكشافاً. مثل هذا النوع من المناقشات، في صورة مؤتمرات وطنية موسعة ومعمقة، وفي صورة مناقشات في الصحافة ووسائل الإعلام، هو حاجة لمجتمعاتنا العربية عامة، حين تنطرح أمامنا قضايا قد تكون أكثر دقة وحساسية في أشكال تجليها عندنا منها في بلدان العالم الأخرى، والجزء الأكبر من هذه القضايا مغيب أو مسكوت عنه، ولا يقتصر الأمر على العناوين التي غالباً ما تكون كبيرة وجذابة، فيما المعالجة سطحية وعجلى، إنما هو تحديداً في المعالجات الجريئة التي لا تهاب أن تنكأ الجروح، لإخراج ما تحت قشرتها من بكتيريا مُولِدة للتخلف.
(3)
على هذا الكوكب مقادير هائلة من التنوع في الأقوام الثقافات والديانات التي عليها أن تقتسم العيش المشترك فوقه، واقتسام ثرواته، والتصرف بمسؤولية ليس فقط تجاه الحاضر، وإنما تجاه المستقبل أيضاً، لأن للأجيال القادمة الحق نفسه في العيش عليه والاستمتاع بالحياة فيه. لكن هذا الحق لم يصن أبداً. الأقوياء قهروا الضعفاء وأبادوهم، وشهد العالم حربين عالميتين أودتا بملايين البشر، هذا خلاف ضحايا الحروب الصغيرة والمجاعات والكوارث.
هل ثمة أمل بأن تبلغ البشرية مرحلة الرشد التي تجعلها تكف عن ثقافة الغابة التي ما زالت متأصلة في سلوكها الذي لم يتأنسن بعد كفاية رغم التطور المديد الذي قطعته، والشأو الحضاري الذي بلغته، والتقدم المهول في المعارف والعلوم والتقنيات ووسائل الاتصال، التي توظف هي ذاتها، في الكثير من الحالات، لإبقاء البشر ضمن شريعة الغاب، حتى لو جرى تقنين ذلك بنظم تشريعية، والتمويه عليه بما في الجُعب من “مكياجات”، متعددة الاستخدامات، جل ما تفعله إخفاء التشوهات لا التخلص منها.
“نحن ما فقدناه”! – هكذا أجابت سيدة أجنبية عن سؤال يقول: “مَن نحن”، وُجّه لأشخاص من ثقافات ولغات مختلفة، من نحو عشرين ثقافة او لغة، وأُريد بهذا السؤال اختبار الحساسيات الثقافية والقومية وربما الدينية أيضاً تجاه الموضوع الذي جرى التعارف على تسميته ب”الهوية”. كان جواب هذه المرأة هو الأكثر اختصاراً وتكثيفاً بين أجوبة المشاركين في الإجابة. امرأة أخرى أشارت إلى أن للأمريكيين بالذات مشكلة مع هويتهم، لأنهم بالدرجة الأولى سليلو مهاجرين قتلوا معظم السكان الأصليين، والحال، بما أنهم فقدوا معنى الوجود المرتبط بجذورهم في بلد أجدادهم، فإنهم يسعون إلى التماهي بما يملكونه مادياً.
على أن السؤال: “من نحنُ”، ليس سوى واحد من مجموعة أسئلة تتصل بمفاهيم حيوية كالعالم والبيئة والتوازن والقيم والمسؤولية والتضامن وسواها، جرى عرضها على هؤلاء بحثاً عن أجوبة مختلفة أو متشابهة، في إطار سعي فريق أطلق على نفسه مسمى “التحالف” بهدف التفتيش عن مشتركات ثقافية بين الشعوب، وإن أمكن خلق هذه المشتركات تحت السؤال المفصلي التالي: “هل يمكن قول ثقافة في لغة ثقافة أخرى”، أي هل يمكن للغة غير لغتنا الأم أن تحمل الشحنة الدلالية للفكرة التي نقولها في لغتنا، هل نكون على يقين من أن الآخر يتلقى في لغته ما أردنا قوله في لغتنا إذا ترجمنا له ما نقول، أم أن المفردات نفسها تحمل دلالات مختلفة وربما متناقضة بين لغة وأخرى، من أجل التأمل في طريقة تناول مسألة الاختلافات بين الحضارات، لا بين الثقافات الفرعية داخل الحضارة الواحدة، لبلوغ الفكرة الأثيرة القائلة إن البشرية تواجه الأسئلة الكبرى ذاتها، ولكن بتنويعات مختلفة، مما يقودنا، مرة أخرى، إلى الفكرة الأثيرة القائلة أن الوحدة في التنوع، وإن احترام تعدد وتنوع الثقافات هو طريق وحدة البشر، أما قهر الثقافات لتسييد ثقافة واحدة فهو ما تبرهن التجارب على أنه طريق مُدمّر .