ماذا قالت له والدته، وماذا قال هو لهندرسون؟
في ذكرى رحيل الفنان الموسيقي والمناضل مجيد مرهون، نعيد نشر هذه المقاطع من كتابه: “أشهدُ أني عشت”، الصادر عن المنبر التقدمي بعد رحيل مجيد، والذي حكى فيه جوانب من ذكرياته، قبل سنوات السجن الطويلة وخلالها.
في إحدى تلك الليالي، وفي خضم الإعتقالات الكثيرة، أحضر لي أحد الرفاق “كرتوناً” كبيراً مليئاً بنسخ من نشرة جبهة التحرير الوطني (الجماهير)، لتوزيعها على خلايا تنظيمية فقدت قياداتها، والمطلوب مني ربط تلك الخلايا وإعادة سير عملها التنظيمي السري، وبسرعة خرج من البيت دون أن تراه والدتي، وبعد ذلك أغلقتُ باب حجرتي، وبدأت أرتب النسخ لكل فرد من أفراد الخلايا وفق المنطقة التي يعيش فيها، ويبدو أن أمي لاحظت شيئاً أثار شكوكها، فجاءت تطرق الباب، وعندما فتحته قليلاً، سألتني عن الموضوع، وسقطت عينها على المنشورات، بالرغم من محاولتي إخفائها، فأخبرتها بعد أن أدخلتها حجرتي بأني عضو في تنظيم مناضل، فارتعبت وطلبت مني كأم أن أتخلى عن العمل السياسي خوفاً عليّ من الاعتقال، فبادرتها حازماً بالجواب: “إن عملي شريف ولمصلحة الوطن، وعليها أن تختار بين أمرين، إما أن أحنث بوعدي وأتخلى عن توجهاتي وأنتحر، أو أن تبارك توجهاتي حتى لو أدى ذلك إلى موتي”، وكانت لحظة إرباك بالنسبة لكلينا وساد صمت ثقيل، وبعدها أخذتني بالأحضان، وصارت تقبلني والدموع في عينيها قائلة “ليبارك الله لك في كل خطوة تخطوها”.
ومنذ ذلك الحين زاد حماسي، وقمت بقيادة خلايا تنظيمية عديدة بعد الإعتقالات في مارس وإبريل عام 1965، كما ووفق توصية من رفاقي الأعلى رتبة أصبحت أهتم بتثقيف أمي لكي تصبح قلعتي الحصينة، فكنت أقرا لها منشوراتنا وأناقشها في مواضيعها، كما كنت أقرأ القصص الهادفة لها، وصارت تهتم بشكل خاص بالأخبار سواء المذاعة منها أو المنقولة، كما وصرت أعلمها الحروف الأبجدية فكنت أرى تلك القلعة تتكون أمام ناظري، ولذلك فإن علاقتي بأمي كانت تزداد وثوقاً.
“ليبارك الله لك في كل خطوة تخطوها” – أم تقول هذا الكلام إلى ابنها تجعله يصبح صامداً كالفولاذ، وتدفعه دفعا إلى الأمام وبكل قوة، كما وتجعله يتأكد من أن وراءه قلعة حصينة لا تدّمرها الأهوال، وهذا ما جعلني لصيقا بأمي إلى حدّ الجنون في التقرب إليها طمعاً في نيل رضاها وبراً بها تعويضا عما كابدته طوال حياتها لأجلي.
****
وبعد وفاة أمي بتاريخ 13 يونيو 1981 ظنّ هندرسون ورجاله بأنني في وضع لا أحسد عليه، وأنني أصبحت ضعيفاً أمامهم ويمكنهم كسر شوكتي، فبدأوا أعمالهم الاستفزازية من جديد وبمختلف الطرق، ولم يدركوا بأن الأسد الجريح يكون أشدّ خطورة من حاله قبل ذلك، فأحضروني لمكتب التحقيقات، ومن جديد بدأوا يطلبون مني أن أوقع على ورقة مضمونها أني لا أحتاج إلى تضامن الأحزاب اليسارية والشيوعية والاشتراكية، وهي الأحزاب التي ترسل لهم رسائل الاحتجاجات على استمرار سجني، والمطالبة بالإفراج عني، وكان جوابي لهم أنّ احتجاج ومطالبات الأحزاب والمنظمات في العالم هي مشكلتكم أنتم وليست مشكلتي، وعليكم أن تتحملوها بأنفسكم، فأنا بعيد عن كل ما يحدث في العالم، كوني في السجن، فإذا حدث أمر ما في السجن ولي يد فيه، فإني على استعداد لتحمل مسؤولية ذلك، ولكن إذا لم تكن لي فيه يد فكيف أتحمل مسئوليته ؟!، هذا في السجن، فما بالك في ما يحدث خارج السجن، فكيف أتحمل مسئوليته؟
ولكن الضابط كرر طلبه وبغباء عدة مرات كالببغاء، وأنا أكرر جوابي بوضوح حاسم، حتى سأمت هذه اللعبة السمجة، وفي الأخير ضربت الطاولة بكلتي قبضتيّ صارخاً فيهم بأني لست مستعداً لكتابة أي شيء من هذا القبيل، وطالبتهم بحزم بأن يعيدوني إلى السجن، وكان ذلك الضابط هو (محمد مبين)، فبهت وأتصل برئيسه هندرسون (مدير المخابرات)، فطلبني هذا الأخير إلى مكتبه محاولاً إخافتي ومتبجحاً بقوله إن كل الناس في البحرين ترتعد فرائصها عندما تسمع اسمه، فأجبته بتحدٍ بأني لا أرى ذلك، فهو بشر مثلي، فإذا كان هو ضابطاً يلبس اللباس المدني، فإني ألبس اللباس الرسمي للسجن، ولا يختلف عندي عن غيره من الناس، فأسقط في يده وتسمر في مكانه صامتاً عدة ثوانٍ كانت ثقيلة عليه، ثم صرخ كالمجنون طالبا رجاله: “أعيدوه إلى السجن .. أعيدوه إلى السجن”، وهذا ما جعلني أضحك، ساخراً، في وجهه، وبالطبع أعادوني إلى السجن.