كثيرة هي المسوغات التي يمكن أن يسوقها الاقتصاديون والمشتغلون في قطاعات المال والأعمال. إنما، بالنسبة للوضع الحادث حاليا، يمكن أن يعزى ارتفاع الدولار الى تحول مجلس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي من سياسة صفر سعر فائدة الى بدء رفع معدلاتها بصورة متواترة (تبلغ اليوم نسبتها 2.5%)، مقابل 0.50% في الاتحاد الأوروبي، و1.25% في بريطانيا، في حين استمر بنك اليابان في سياسته التي تعتمد على أسعار فائدة سالبة (-0.1%) للحيلولة دون الوقوع في الركود.
الأكثر إثارة، إنه على الرغم من أن أمريكا تضطلع فقط بحوالي 10٪ من التجارة العالمية، إلا أن 85% من تسويات التجارة العالمية تتم بالدولار الأمريكي. وهذا سبب كاف، بطبيعة الحال، لخلق طلب مستمر على الدولار الأمريكي، الأمر الذي يوفر دعما هائلا للدولار قياسا بالعملات الأخرى. ومن أهم هذه التسويات، تسوية مدفوعات النفط التي تتم بالدولار، ما يجبر الدول والشركات على تشكيل طلب دائم على الدولار لدفع ثمن مشترياتهم من النفط. يضاف الى ذلك أن هذه البترودولارات كانت تذهب في الأساس كودائع الى بنوك وول ستريت في نيويورك ولومبارد ستريت في سان فرانسيسكو (كاليفورنيا). وهو ما أمّن لأمريكا قدرتها على تمويل انفاقها العجزي لما يقرب من خمسة عقود من دون أن تتأثر القوة الشرائية للدولار.
لكن امتياز الدولار (باعتباره عملة العملات العالمية)، بدأ يتعرض للاختراق، سواءً من خلال هيكلة الصين لقروض تمويل مشروعاتها المتصلة بمبادرة حزام واحد طريق واحد، باليوان الصيني، أو من خلال اعلان روسيا مؤخرا تقويم مبيعاتها من الغاز الى الدول التي صنفتها على أنها غير صديقة، بالروبل الروسي. المفارقة هي أن أمريكا نفسها هي التي عجّلت بخسارة هذه الهيمنة، عندما استولت بشكل غير قانوني في شهر فبراير الماضي على الاحتياطيات الدولارية لروسيا، ما أظهر بشكل قاطع لبقية العالم أن سيادة الاحتياطيات المحتفظ بها بالدولار الأمريكي هي مجرد وهم.
في هذا السياق، نشرت دان وانج، كبير الاقتصاديين في بنك “هانج سينج” في الصين، مقالا في صحيفة “تشاينا ديلي” (صحيفة يومية صينية باللغة الإنجليزية)، أواخر شهر يوليو الماضي، بأنه لوحظ في الآونة الأخيرة تغيير جوهري ملموس متمثل في انخفاض حيازات العديد من البنوك المركزية من سندات الخزانة الأمريكية. وعلى رأس تلك الدول، أكبر كيانين حائزين للسندات الأمريكية، وهما اليابان والصين. فقد خفضتا حيازاتهما لمدة ثلاثة وستة أشهر. فانخفضت حيازات اليابان إلى 1.212 تريليون دولار، وهو أدنى مستوى منذ يناير/كانون الثاني 2020. كما انخفضت حيازات الصين إلى 980.8 مليار دولار، في أدنى مستوى أيضاً منذ 2010. هذا إلى جانب ما لا يقل عن 19 حكومة أخرى، بما في ذلك حكومتا البرازيل وفيتنام، اللتان باعتا حصة كبيرة من سندات الخزانة الأمريكية.
وأرجعت وانج هذا التوجه الى ثلاثة عوامل رئيسية، أولها توقع قيام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة من جديد، فالمعدلات الأعلى تعني انخفاض أسعار السندات. لذلك، من الأفضل لأصحاب المقتنيات النفيسة من السندات تفريغ بعض الحمولة عندما تكون الأسعار مرتفعة. والسبب الثاني هو تعزيز قيمة العملة. فقد ارتفع الدولار الأمريكي بشكل ملحوظ منذ أن بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة في مارس/آذار الماضي. ومن المتوقع أن يستمر في هذه السياسة النقدية المتشددة، ما يمثل ضغطاً هبوطياً هائلاً على العملات الأخرى. أما السبب الثالث فهو جهود الدول للتنويع من الأصول المقومة بالدولار. وإسرائيل هي أحد الأمثلة على دولة خفضت حيازاتها من سندات الخزانة الأمريكية وزادت في المقابل أصولها باليوان الصيني والدولار الكندي والدولار الأسترالي والين الياباني.
تقول وانج، إنه في مقابل تراجع جاذبية سندات الخزينة الأمريكية، هناك إعادة تخصيص رأس المال الصادر من سوق السندات الأمريكية إلى أسواق أخرى. وأصبحت الصين وجهة ناشئة لتدفق رأس المال، حيث يمكن للمستثمرين الأجانب شراء وبيع الأسهم والسندات بسهولة أكبر في أسواق الصين. إلى جانب ذلك، تم إدراج السندات الحكومية الصينية وملكية الأسهم في جميع المعايير العالمية الرئيسية، بما في ذلك مؤشرات الأسهم في «مورجان ستانلي كابيتال إنترناشونال»، ومؤشر سندات «بلومبيرج باركليز»، وبالتالي سيزيد المستثمرون المؤسساتيون الذين يتتبعون هذه المؤشرات تلقائياً من حيازاتهم من الأصول المقوّمة باليوان.
فما تأثير هذه التطورات على الواجهة المالية العالمية؟ على الرغم من البيع الأخير لسندات الخزانة الأمريكية، لا يزال الدولار مهيمناً ولم يتم تحدي نفوذه بشكل أساسي، ولا تزال الولايات المتحدة منبع العملة الاحتياطية الأساسية في العالم، والتي تجعل سندات الخزانة أصولاً آمنة، لا سيما في أوقات عدم الاستقرار الشبيهة بما نمر به اليوم.
في الوقت ذاته، لا تزال الرغبة في الحصول على سندات الخزانة الأمريكية واضحة في تحركات السوق الأخيرة. وفي الوقت الذي تنشغل فيه الحكومات ببيع السندات الحكومية الأمريكية، ينشغل المستثمرون الأفراد بالشراء. ففي مايو، وبينما باعت الحكومات في جميع أنحاء العالم ما قيمته 34 مليار دولار من سندات الخزانة الأمريكية، اشترى الأفراد سندات بقيمة 134 مليار دولار. ورأينا اندفاع المستثمرين من جميع أنحاء العالم إلى الأصول الآمنة، ومعظمها من سندات الخزانة الأمريكية، بسبب استمرار ارتفاع التضخم وتقلب أسواق الأسهم. إنما السؤال: هل سندات الخزينة الأمريكية أكثر أمانا وسط تقلبات الأصول من الذهب مثلا الذي يراوح حول أقل من ألفي دولار للأوقية الواحدة؟
ومع ذلك، يشير الانخفاض في حيازات العديد من البلدان من السندات الحكومية الأمريكية إلى حدوث تحول في عقلية العديد من البنوك المركزية. إذ تفرض الولايات المتحدة بشكل متزايد عقوبات مالية على دول أخرى، مثل روسيا وإيران، ما يجعل أي دولة لديها نزاع مع الولايات المتحدة عرضة للخطر.
لإدراك التحديات التي تنتظر البلدان في جميع أنحاء العالم، يمكننا أن نضيف إلى ذلك، حالة عدم اليقين المرتبطة بالانتخابات الأمريكية الأمريكية النصفية (في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 2022 ستُجرى انتخابات التجديد للكونغرس على كل مقاعد مجلس النواب الـ435، وعلى 34 من مقاعد مجلس الشيوخ المئة)، والتعافي المتعثر بعد الوباء، الذي استحال ركوداً بحكم الأمر الواقع. وبالتالي ليس من المستغرب أن الحكومات تريد التنويع بعيداً عن احتياطيات الدولار، ولو جزئياً على الأقل. ورداً على العقوبات الأوروبية ضدها، ومن أجل الالتفاف على القرارات الأمريكية، فرضت روسيا على الدول الأوروبية نظام الدفع بالروبل مقابل شراء الغاز الروسي.
في الواقع، سيواجه الدولار مزيداً من المنافسة في المستقبل، ليس فقط من العملات التقليدية الأخرى، ولكن أيضاً من العملات المشفرة. فالمملكة العربية السعودية على سبيل المثال، خفّضت حيازاتها من سندات الخزانة الأمريكية بنحو 40 في المئة منذ أوائل عام 2020، وجربت تسوية بعض المعاملات الدولية باستخدام العملات المشفرة.
جوهر الأزمة..الأحادية القطبية
النظام أحادي القطبية، الذي تتم “صيانته دوريا” للمحافظة عليه وعلى نظام السلسلة الاحتكارية للقطاعات الاقتصادية العالمية الرئيسية، يعد واحدا من الأسباب الجذرية للأزمة العالمية. بموجب هذا النظام، لدينا مركز ضخم للاستهلاك هو أمريكا، التي تموَّل عجزيا هذا النهم الاستهلاكي بصورة مطردة بواسطة الاقتراض الخارجي، وبالتالي مراكمة ديون لا تتوقف عن التصاعد، وعملة احتياط فقدت معظم مصادر قوتها المرتبطة بنخاع الأساسيات الاقتصادية، ونظام واحد مهيمن لتقييم الأصول والمخاطر، تمثله ثلاث وكالات تصنيف ائتمانية أمريكية. وهذا يفسر انخفاض جودة عمل الهيئات التنظيمية للأسواق والاقتصاد بوجه عام، والمسوغات المتهالكة للتقييمات الاقتصادية التي تجريها الحكومات ووكالات التصنيف. والنتيجة هي الأزمة التي لا يمكن تفاديها.
لقد حل نظام مقياس الدولار الذي من تجسيداته سندات الخزانة الأمريكية التي تشتريها الدول الأجنبية وتحتفظ بها في بنوكها المركزية – حل محل معيار تبادل الذهب الذي تحتفظ به البنوك المركزية في العالم لتسوية المدفوعات فيما بينها. وقد مكّن ذلك الولايات المتحدة من إدارة عجز في ميزان المدفوعات بشكل فريد لأكثر من سبعين عاما، على الرغم من حقيقة أن سندات الخزانة الأمريكية هذه لا تتمتع بفرصة واضحة لسدادها إلا بموجب نفس آلية تمويل سداد الدين بدين جديد.
وهذا ما يجعل الولايات المتحدة، الدولة الوحيدة في العالم التي يمكنها أن تعاني من عجز مستمر في ميزان المدفوعات دون الاضطرار إلى بيع أصولها أو رفع أسعار الفائدة لاقتراض أموال أجنبية. كما لا يمكن لأي اقتصاد وطني آخر في العالم أن يتحمل نفقات عسكرية خارجية ضخمة، كما هو حال الاقتصاد الأمريكي، دون أن يفقد قيمة عملته التبادلية. ولولا هذه الامتيازات، لغرق الاقتصاد الأمريكي منذ ما بعد فك ارتباط الدولار بالذهب مطلع سبعينيات القرن الماضي. وهذا هو سبب سعي روسيا والصين والقوى الأخرى التي يعتبرها الاستراتيجيون الأمريكيون منافسة وأعداء استراتيجيين، لاستعادة دور الذهب كأصل أولي وأساسي لتسوية اختلالات موازين مدفوعات الدول.
وعلى الدوام، كان رد أمريكا على أية دولة تفكر في تفضيل الذهب أو العملات الأجنبية الأخرى على الدولار كعملات احتياط واكتناز، هو اللجوء الى إحدى وسائلها المعتمَدة لتغيير النظام، على نحو ما أقر به يوم الثلاثاء 12 يوليو 2022، جون بولتون، السياسي الأمريكي ذو النزعات الفاشية، الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس دونالد ترامب، حيث اعترف في مقابلة أجراها معه الصحافي في “CNN”، جيك تابر (Jake Tapper)، بأنه ساعد في التخطيط لانقلابات في دول أجنبية، وذلك في سياق مناقشة الثنائي تمرد الكابيتول وما إذا كان الرئيس السابق ترامب قادرا على التخطيط بشكل فعال لانقلاب. ومن الأمثلة على ذلك الإطاحة بالرئيس الليبي معمر القذافي بعد أن سعى إلى قصر احتياطيات بلاده الدولية على الذهب، وانشاء نظام نقدي قائم على معيار الذهب لتسوية المبادلات التجارية بين بلدان القارة الأفريقية. فكانت تصفيته بمثابة تحذير عسكري لدول أخرى.
ومن المفارقات المحيِّرة للمعنيين بالأساسيات الاقتصادية، أنه بفضل قيام البلدان التي تتمتع بفوائض في موازين مدفوعاتها، باستثمار هذه الفوائض الدولارية في سندات الخزانة الأمريكية، فإن ميزان المدفوعات الأمريكي الذي يسجل عجزاً متواليا، يتكفل بتمويل عجز الموازنة الأمريكية العامة؛ كما أن قيام البنوك المركزية الأجنبية بإعادة تدوير الإنفاق العسكري الأمريكي في الخارج من خلال شرائها لسندات الخزانة الأمريكية، يمنح أمريكا، “توصيلة” مجانية، متمثلة في تمويل ميزانيتها التي تغلب عليها النفقات العسكرية، ليتم تحصيلها عبر جباية الضرائب من الأمريكيين.