من يلتفت إليهم، سكان الظلّ؟ فالكثير من الحراك الثقافي على مستوى المنطقة، في وجهه الرسمي بالذات فيما لو توقفنا عـنده سنلاحظ أنه مشغول بالهالة الإعـلامية ويعيش هاجسها فقط مع أعضاء نوادي الجوائز الأدبية العربية المعروفة ولا يتذكر الصف الآخر من الساحة!
وعـليه.. حصرية البرامج وضيافات الأعراس الثقافية من معارض كتاب أو مهرجانات أدبية إلخ من فعاليات لا تخرج عن نطاق “السادة” ممن دخلوا تحت قبـة هذه الخيمـة الباذخـة بكل ما تحتوي من نعيم الامتيازات، اللهم لا حسـد ولكن…
يفوت ساحتنا الثقافية العربية التي تركز جُل جهودها على هذه “الصفوة” القوية الحضور بأنها مهما كانت من حيث المعيارية تستحق فوزها وخدمتها موجة الفوز وأطلقت تألق نجوميتها في وقت من الأوقات، ليس هذا مدعاة كونها الأفضل ومن حقها الهيمنة الناعمة على عمومية المشهد الأدبي والغرق في مجاملتها لأبعد الحدود.
بعبارة أدق .. هل الساحة الثقافية العربية عاجـزة عن إنجاب شاعـرٍ مفوّه أو روائي مُـبدع أو قاص فنان متمكن؟ بحيث أن إدارات المهرجانات ومعارض الكتاب العربية باتت لا ترى في الساحة غير “فُـلان وعـلان” ممن يتم تكريس اسمـه وشهرته التي لا يُشق لها غبار ولا تنطفئ من مضاربه نار؟!
أسماء كثيرة في دنيا الأدب والثقافة تدور في هذا الفلك، تمّ تأبيد حضورها، قد أتخمها التطبيل الإعلامي وحشو الشهرة أكثر من الـلازم .. مرة أخرى أكـرر، لسنا هنا نناقش استحقاق مثل هذه المكتسبات لأصحابها أو نحدق في نِعـم غيرنا وما رزقهم الله تعالى من خير، لكن نتفحص كواليس مشهدنا الثقافي العربي ويحقّ لنا اثارة سؤال مشروع .. استمرارية حالة التكريس هذه ألا تضـرّ بشعارات الثقافة التي نرفعها؟ ألا تجعل صفوف أخرى من المثقفين والكتاب مُهملين في الظل ولا تبصر جهودهم حتى مقابلات الصحف، لا أحـد يذكرهم أو حتى يزكيهم ضمن حفلٍ أو مهرجان، حتى ذكر نعيهم في حالة الرحيل خاضع لسؤال طبقي في تدرج سلم القامات الأدبية … (من أنت؟! ما هو حجم تأثيرك في الساحة؟!).
فقط نطرح مثل هذه التساؤلات التي يفرضها خلل واقعنا الثقافي المشغول بالبهرجـة الإعلامية وحساباتها، إدارات معارض الكتاب كأقرب مثال في أي دولة عربية، يتضح أن قاعدتها المعلوماتية بما يخص الكتاب والمثقفين لا تعمـد إلى تحديث بياناتها وتتأكد من تطورات الساحة، ثمة كتاب جدد تجاربهم تستحق الاكتشاف لكن “هُـم” مجرد أشباح ولا أحد يراهـم وفي هذا ظـلم كبير وتقصير في حقـهم. هذه الفئـة من الكتاب يكتبون بصمت وينشرون كتبهم بصمت وتمر سنون طويلة من تجاربهم فيتحولون إلى كائنات هلاميـة لا يبصرها الإعلام ولا يعتقد أحـدٌ بوجودها من الأصل لكون طوق التهميش يحاصرها لأنهم (سكان الظل)، سُرقت منهم فرصتهم في الظهور عـدى حقهم في ضوء الحياة وهذا هو الواقع الذي نتحاشى مواجهته بصراحة ” فكلٌ يجر النار إلى قرصـه “ولا أحد يفكـر في غيره، فالكاتب الشهير “فلان بن فلان” ليس بوارد الاعتذار عن دعـوة تضعه على مقاعـد رجال الأعمال وإقامة فندقية بدرجة خمس نجوم إلخ من امتيازات ليخبر الجهة الداعية أن ثمة كاتب آخر مجتهد يسكن الظل حبذا لو تتذكرونه بخير!
مثل هذا الواقع الذي تعيشه الساحة الثقافية العربية خارطته تتوزع على اغلب العواصم العربية مستمر على منوال واحد ويتكرر بشكل موسمي أشبه بدورة القدر لا ندري حقـًا إن كان بمقدورنا لفت النظر إليه ابتغاء تصحيحه أم لا، لكنما هناك ثمـة أمــل.
الأمل الذي نرى طيفـه يلوح في الأفق على اعتبار قاعـدة “إيجاد البديل” يتمثل في تضافر الجهود الثقافية الأهلية وأهمية قيامها بمبادرات تتوجـه لانتشال “سكان الظل” من صمت عوالمهم، فالمسؤولية المجتمعية ذات البعد الثقافي عليها تقدير جهود هؤلاء الكتاب وإبراز طاقاتهم ومجهوداتهم الثقافية والعلمية وتسليط الضوء الإعلامي عليها وتأكيد حضورها في مسيرة التنمية الثقافية.
لماذا لا يتم تأسيس مهرجانات تستقطـب “مثقفـي وكتاب الظـّـلّ” هؤلاء الذين لا يتأنقون بربطات العنق الحريرية أو يعيشون في جُلباب “الوزير” ومن ضمن حاشيته؟ هُم قومٌ بسطاء يحتسون شاي “الكرك” على الأرصفة أو يتأبطون كتبهم في مواقف الحافلات. إنّ تكاملية الأدوار وإحداث حالة من التوازن ضمن مشهدنا الثقافي مطلوبة ولتبقـى تلك المهرجانات ومعارض الكتب على حالها في تكريس الأسماء التي اختارت تأبيد حضورها كما تشاء، المهم هنا أن ثمـة بديل شرعي يُنصف تلك الفئة من الكتاب وينقذها من لعنـة الظل والتي للأسف تبتلع في هوتها الكثير من الأجيال، في وسعنا التكاتف والتعاون كيما نُوجد لها واقعـًا مغايـرًا ومكانـًا تحت الشمس حتى تنمو الساحة الثقافية العربية ويزدهر عطاؤها بأمــراض أقـل!