تفخر مملكة البحرين بما تقدمه من خدمات مرتبطة بالرعاية الصحية الأولية والذي أكسبها بالنتيجة سمعة طيبة على الصعيد الدولي، إلا إن المشهد يتغير تدريجيا الآن. فمنذ أن شرعت الدولة في توسيع تحركاتها نحو مشروع الضمان الصحي، ونحن نلمس ابتعاداً بطيئا عن تقديم الخدمات الأولية والذي انتهى إلى تفكيك وزارة الصحة وتقطيع أوصالها.
ما وقعت عليه البحرين من المواثيق الدولية وأصبحت جزءا من منظومتها التشريعية، تلزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة لضمان تمكين الجميع من الوصول للمرافق والسلع والخدمات الصحية ومن ثم الحصول على أعلى مستويات الصحة الجسمانية والعقلية، كما أن ميثاق منظمة الصحة العالمية حمل الدول مسؤولية اتخاذ تدابير اجتماعية وصحية كافية لضمان حصول مواطنيها على الحق في الصحة كحق مركزي وأساسي من حقوق الإنسان.
إن تفكيك القطاع الصحي لعدة جهات ومؤسسات قد يضر المنظومة الصحية وقوتها وجاهزيتها لتقديم حق الإنسان الجوهري في الرعاية الصحية والذي يعد الأساس والمقدمة للحقوق الأخرى من تعليم ومعيشة وغيره. وتمثلت مظاهر التفكيك في البدء ببرامج التسيير الذاتية للمراكز الصحية ومستشفى السلمانية ومن ثم تم فصلها عن وزارة الصحة…. فعليا الآن وزيرة الصحة من دون صلاحيات كافية لإدارة هذا القطاع الحيوي.
ولذا فلدينا تساؤلات مشروعة عن الآليات اللازمة لضمان التزام الدولة بحق توفير الصحة بعد البدء في تطبيق الضمان الصحي، والآليات التي ستَخِدم هذا الحق وتسهر على تحقيقه والحفاظ عليه، وأيضا الالتزام بالنصوص والتعهدات وتحويلها إلى واقع.
انطلاقة ومطبات
بالعودة لقانون الضمان الصحي، نجد أن القانون قد أبصر النور في أبريل 2018 بهدف تطبيقه في مطلع العام 2019، غير أن الانطلاقة تعثرت لعدة أسباب ومطبات ليس آخرها “قلق وهواجس” المجتمع من تنفيذه. ورغم اللقاءات التي عقدت بهدف تطمين الناس وممثليهم لهذا المشروع، إلا أننا نجد كثيرا من القضايا والمسائل التي لا زالت غامضة وغير واضحة أو محسومة.
نظرة أولية على نصوص هذا القانون تظهر استثناء العسكريين ومؤسساتهم الطبية ومنتسبي قوة دفاع البحرين من تطبيق الضمان الصحي، فالمادة (2) من قانون الضمان الصحي تنص “يستثنى من أحكام هذا القانون منتسبو قوه دفاع البحرين من العسكريين والمدنيين وأفراد أسرهم على أن تتحمل كافة المؤسسات والمراكز الصحية الخاضعة لهذا القانون تقديم الخدمات الصحية لمنتسبي قوة دفاع البحرين وأفراد أسرهم على نفقه الدولة”.
وبتفحص ميزانية الضمان الصحي، نجد أن موارد الصندوق تتشكل من مصدرين رئيسيين، الأول يتمثل بما تضخه الحكومة من مخصصات مالية مع إقرار كل ميزانية عامة للدولة؛ والثاني يتحصل عبر مبالغ تدفع من قبل شركات التأمين المصرح لها التغطية التأمينية.
إذ ستلتزم الحكومة بسداد الاشتراكات عن المواطنين ومَن في حكمهم، وذلك في مقابل المنافع المقررة في الرزمة الصحية الإلزامية للمواطنين كما ستتحمل الحكومة ما نسبته 60% من تكاليف علاج البحرينيين في المؤسسات الطبية الخاصة.
وبحسب النظام المفترض، يلتزم صاحب العمل بسداد الاشتراكات عن عماله غير البحرينيين وذلك لتغطية المنافع المقررة في الرزمة الصحية الإلزامية للمقيمين والذين سيحق لهم الاستفادة من المستشفيات الحكومية أيضا ولكن عبر نظام الضمان الصحي المستحدث.
وبالنظر إلي المنافع الصحية التي يحصل عليها المواطن في الضمان الصحي الإلزامي، سنجد أنها تشمل الخدمات الوقائية والعلاجية والتأهيلية والفحوص الطبية وتشمل الفحوصات المختبرية والأشعة والعمليات الجراحي والعلاج النفسي و العلاج الطبيعي والخدمات التمريضية. وبهذا يضمن البحريني توافر هذه الخدمات مجانا في المستقبل المنظور مع استمرار العمل بهذا القانون دون تغييره.
المدني والعسكري
وإما بالنسبة لهواجسنا وملاحظاتنا قبيل تطبيق الضمان الصحي، فهي كثيرة، أولها عدم المساس بالحق في المساواة الذين ضمنه الدستور في المادة 18 “الناس سواسية في الكرامة الإنسانية ويتساوى المواطنون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة. ورغم ذلك نجد أن قانون الضمان الصحي يستثني العاملين في قوة دفاع البحرين وأسرهم (عسكريين ومدنيين) وهذا تمييز. لماذا لا يحق للمواطن الاستفادة من خدمات مستشفى الملك حمد والمستشفى العسكري ومركز القلب؟
لدينا هاجس أيضا من أن يؤدي النظام الجديد إلى إضعاف المنظومة الصحية وتفكيكها مما يجعلها غير قادرة على مواجهة أزمة صحية طارئة أو جائحة جديدة. وكشفت لنا جائحة كورونا أهمية بقاء المؤسسات الصحية العامة وهيمنة الحكومات على القطاع الصحي، فقد أحجمت شركات التأمين عن تحمل تكاليف العلاج أثناء هذه الأزمة العالمية.
هناك تساؤل مهم عن تزامن “الوضع الاقتصادي وزيادة وتيرة الدين العام ” مع التحركات نحو إقرار النظام الجديد وهل من الحكمة أن تتحول الدولة من إنتاج الرعاية الصحية إلى تحمل جزء من تكاليف شرائها من القطاع الخاص للمواطنين؟!
غالبية البحرينيين لديهم قلق من استمرار تمتعهم بالحق في الرعاية الصحية المجانية واحتمالية احتساب بعض الرسوم مستقبلا وخصوصا في طريق الحصول على الخدمات المساندة كالأشعة والمختبر، فالقانون يخول المجلس الأعلى للصحة صلاحيات كثيرة لاتخاذ “ما يراه مناسبا”، وبالتالي قد يقرر تقاسم بعض الأعباء والرسوم مع المواطنين إذا ما ضعف الوضع المالي لصندوق الضمان الصحي مستقبلا.
والحكومة اليوم ملتزمة بتسديد الاشتراكات عن المواطنين لضمان استفادتهم من الرزمة المجانية من الخدمات الصحية ولكن استمرارية هذه الجزئية الهامة غير مضمونة في المدى البعيد. ولسنا متأكدين من رغبة الدولة في تحمل هذه التكلفة مستقبلا عقب ترسيخ النظام واستمرار العمل به لسنوات وتأقلم المستشفيات الحكومية والخاصة والمواطن مع الوضع الجديد.
البنك الدولي
إن المستشار الأول للحكومة في إقرار مشروع الضمان الصحي كان البنك الدولي، والذي خبرنا أهدافه دائما، والتي ترمي إلى إبعاد الدولة عن إدارة وتقديم الخدمات الصحية والاكتفاء بدور المراقب والمنظم، وكذلك تحميل المواطن مسؤولية تمويل الخدمات. وبافتراض صحة النوايا الحكومية ورغبة الدولة في استمرار التزامها بتوفير الرعاية الصحية للمواطنين، فإن مشروع الضمان الصحي، وان كان غير واضح المعالم على المدى القريب، إلا أن أحد الأهداف (حتى وإن لم تدركه الدولة حاليا) هو تفكيك المنظومة الصحية والذي بدأ بالفعل وتحويلها لاحقا لمؤسسات صغيرة تدار ذاتيا وتتنافس وقد تخسر ومن ثم تباع! وهو ما يعد تطبيقاً عملياً لخصخصة القطاع الصحي – إن حصل- وهو سيناريو وارد.
لدينا أيضا هاجس آخر من هيمنة الإداريين في المستشفيات والمراكز على قرارات العلاج وتقديم الرعاية وخصوصا فيما يتعلق بالخدمات المساندة، فتكون قرارات الطبيب المعالج بطلب أشعة أو تحليل مختبري غير نافذة على نحو مباشر، وتحتاج موافقة لجان وغيره نتيجة لدخول شركات التأمين وسياسة الربحية.
ختاما، لابد أن تدرك الحكومة أن تطوير القطاع الصحي لا يتم في ظل وجود بيئة طاردة للكفاءات ببعض المستشفيات. كيف للمستشفيات الحكومية اليوم المنافسة وكسب رضا المتعاملين واقتناص أموال شركات التأمين دون كفاءات جاذبة؟ لقد نفرت مستشفيات حكومية أفضل الكفاءات الطبية وأخرجتهم للتقاعد دون التشاور معهم حول الوجه الأمثل للاستفادة من خبراتهم، فهل يمكن لهكذا مستشفيات أن تتطور وتنمو في ظل نظام الضمان الصحي؟!