برنامج احترافي متطوّر لصحافة متواضعة

0
72

 في عام 1985 تلقيت دعوة من السفارة الامريكية في البحرين لحضور برنامج في الصحافة الاحترافية، ضمن ما يسمى ببرنامج الزائر الدولي، وهو واحد من برامج عديدة تقدمها الخارجية الأمريكية للمهنيين والمثقفين والفنانين في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في شتى انحاء العالم، علمت لاحقاً ان عدد البحرينين الحاصلين عليه ناهز ال 600 شخص.

كانت واشنطن حين وصلتها في شهر نوفمبر تخلع رداء الخريف استعداد للشتاء، يسمونه هنا موسم تغيير الألوان. تلقينا المحاضرات على يد أحد الصحفيين السابقين الذي ترك المهنة وتفرغ هو واثنان من زملائه لتأسيس “مركز الصحافة العالمي”، وهو مؤسسة غير ربحية تهدف إلى تأهيل وتمكين الصحفيين في دول العالم الثالث التي تعاني من صحافة فقيرة أو بدائية، وقد كانت لنا لقاءات ونقاشات مع عدد من رؤساء تحرير ومحرري كبريات الصحف الامريكية في واشنطن ونيويروك، كما شاركنا في إحدى الصباحات في حضور المؤتمر الصحفي للبيت الابيض اليومي الذي يتيح للصحافة الامريكية والعالمية اللإطلاع على آخر المستجدات من وجهة نظر عاصمة القرار وتلقي اسئلة الصحفيين والإجابة عليها، وكنا هناك للاستماع فقط دون مشاركة في طرح الأسئلة.

 على أنّ أجمل ما في الدورة هو لقاءنا مع الكاتب الشهير وود ورد الصحفي الاستقصائي في صحيفة “واشنطن بوست” الذي حقق مع زميله كارل برنستين في قضية ووترجيت التي تسببت في استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون من رئاسة الولايات المتحدة، وحصلت الصحيفة على جائزة بوليتزر في الصحافة، والتحقيق الاستقصائي صار كتاباً شهيراً حمل عنوان “رجال حول الرئيس”، وتحوّل لاحقاً إلى فيلم سينمائي عرض عام 1974، ويعدّ واحداً من أهم أفلام السينما العالمية.

وقد شاهدنا الفيلم في حضور الكاتب، تلى ذلك جلسة نقاش بيننا وبينه حول ظروف وملابسات فضيحة ووترجيت، القصة الصحفية الأشهر في تاريخ الصحافة والتي منحت الكاتب شهرة عالية، وقبل أن نودعه سألته: ماذا في جعبتك الآن فقال: اخبروني أنتم ماذا لديكم. إن منطقتكم الساخنة تعيش عدداً من الحروب والأزمات التي هي بيئة خصبة للمواضيع والقصص الاستقصائية، اختتم ضاحكا: “القصص كلها لديكم”. كانت المنطقة وقتها تعيش لهيب عدد من الحروب، كالحرب الإيرانية العراقية والحرب الأهلية في لبنان والحرب في افغانستان. 

تميزت الدورة بالتنظيم والدقة والإتقان والحرفية، واعتبرناها خير معين لنا نحن الذين نتعاطى مع صحافة شبه بدائية وخاضعة للسلطة الرسمية وذات ترتيب متدنٍ جدا على خارطة الحريات الصحفية قياسا بما هو عليه الحال في أمريكا وأوروبا. كانت دورة الزائر الدولي مهنية وترمي إلى تمكين الصحفي وتعظيم امكاناته ومنحه التدريب المهني والتقني الذي يمهد طريقه للتطوروالنمو والابداع بالاستفادة من تجارب الآخرين حوله وتطبيقها في بلده، وقد استغرقت أربعة أسابيع، اثنين منها اختص بالنظري والثالث عملي، وتضمن زيارات ميدانية ولقاءات، ثم أسبوع رابع خصص لجولة سياحية، رافقنا فيها ثلاثة مترجمون عرب ممن يعملون في الولايات المتحدة وذلك لتسهيل مهمة من لا يجيد الإنجليزية.

وبعض ممن التقيناهم في البرنامج كانوا من المتقاعدين وأصحاب الخبرة والاختصاص في مجال عملهم، ويتعاونون مع وزارة الخارجية في المجالات التي تتطلبها كل دورة أو برنامج تدريبي، وكان من ضمن الدورة زيارة خاصة لعائلات أمريكية في بيوتهم والاطلاع على نمط حياتهم الاسرية والمعيشية.

وبين كل يومين او ثلاثة نجلس صباحاً مع منظمي الدورة والمشرفين عليها لتهيئتنا للأيام المقبلة وتنبيهنا للأخطاء التي صدرت منا أو منهم، وسماع وجهات نظرنا حول سير البرامج، وفيما إذا كنا في حالة رضا عنه أو نود تغييره وبأي كيفية، وهل هو طويل أم قصير؟ وأين هي الجوانب الناقصة فيه كي يتم تلافيها مستقبلا. وقد لفتنا انتباههم إلى أن المبلغ المخصص لنا اقتصادي جداً وبالكاد يكفينا، ويذهب ثلاثة ارباعه لأجرة الفندق والباقي للأكل والمواصلات وغيرها، فاجابوا “أنتم هنا لستم في رحلة ترفيه وتسوّق”.

واختتمت منسقة البرنامج بالقول: بالمناسبة.. اشتكى منظفو غرفكم بأنكم أغفلتم دفع الإكرامية لهم، لعلمكم هذه المبالغ مستحقة لهؤلاء الموظفين، إنها جزء من أجرهم وليس لكم الحق في منعها، ومن الغد أنتم ملزمون بدفع ما يقارب أربعة دولارات يوميا كإكرامية واجبة وليست منّة او تفضلاً، وأخرى عن الأيام السابقة.

ثانياً: أبلغتنا إدارة الفندق أن أحدكم ترك الفندق لسببٍ ما، وذهب للاقامة في بيت أحد اقاربه هنا في واشنطن، لا مانع لدينا في ذلك شريطة أن يعيد لنا جميع مبالغ الأجرة الفندقية المستحقة لنا.

حين عدت كتبت مقالا في صحيفة “أخبار الخليج” عن الدورة وتطرقت إلى بعض الجوانب المهمة فيها وكيف أن بلداً كالولايات المتحدة تستفيد من كل مجال ناجح أنجزته وابدعت فيه، ولا يصبح ماضياً منسياً ولا يترك على الرف بل يتحوّل إلى ورش عمل ودورات مهنية تعود بالنفع على أصحابها لاحقاً.

كان الأسبوع الاخير لنا سياحيا بامتياز، إذ زرنا بعض المدن الأمريكية واتنهينا في منتجع “والت ديزني” حيث شاهدنا الإبداع الأمريكي والتقنيات المتطورة في مجال الانتاج الزاعي والصناعي والتجاري والفضائي في مركز “ايبكوت” الحديقة الترفيهية المصغرة للعالم التي تأخذك إلى المستقبل وآفاق التقدم التكنولوجي وعلوم الفضاء، كما تطلعك على ثقافات الشعوب وعاداتها.

عدت من أمريكا وأنا في غاية الانبهار بالبرنامج الملهم وكيف أن دورة مكثفة من 3 أسبايع في الصحافة الاحترافية تعادل شهادة جامعية من 4 سنوات، أدركت لاحقا ما يقال عن أدوات امريكا الناعمة لغزو العالم والتي لا تقل أثراً وسطوة عن أدواتها الأخرى الحربية والعسكرية والسياسية او الدعائية،  وكثير من مشاهداتي والتدريب الذي تلقيته تسرب في قصصي الخبرية ومقالاتي وتقاريري ولعل أهمها هو كيفية استنباط المادة الصحفية والتنبوء بها، أما  فكرة الزائر الدولي ذات الطابع التبادلي والتي لم تخل من أهداف دعائية فأعتقد أن بإمكان أي دولة أو مؤسسة أو حتى افراد لديهم انجاز ما في أي قطاع أن يحتذوا به  ويقيموا برامج مماثلة للداخل والخارج لتنمية التواصل الإنساني والمعرفي وتبادل الخبرات والتجارب بين الشعوب في شتى المجالات، ونمى الى علمي أن لدى اليابان وسنغافورة وبريطانيا دورات مماثلة توقف أغلبها بعد الأزمة المالية في 2008.

قبل السفر تواصلت معناا السيدة هناء السعيد المشرفة على البرنامج وقتها وسالتنا عن الشخصيات او البرامج التي نود رؤيتها خارج البرنامج المعدّ سلفاً والذي قرأت تفاصيله وأنا في الطائرة، إذ يحدد باليوم والساعة والدقيقة المكان ووسيلة المواصلات ورقم محطة القطار وعناوين الشخصيات التي سنلتقيها والمراكز التي سنزورها والمطاعم التي سنتناول وجباتنا فيها.

كنا عشرة صحافيين متقاربين في الأعمار والخبرات نسبياً، من البحرين واليمن والأردن وفلسطين والسودان والمغرب وتونس ولبنان والإمارات والكويت، وقد عقدت صداقة امتدت إلى يومنا هذا مع بعض رفقاء البرنامج كالصحفية الفلسطينية سناء العالول رئيسة تحرير جريدة “لقدس العربي” والصحفي فؤاد عبول مدير تحرير صحيفة “الأنوار” اللبنانية.

لكن، لماذا استحضر برنامجاً عمره 35 عاماً؟ إنني لغاية اليوم أعتبره أحد أفضل الرحلات والمشاركات الخارجية التي حظيت بها في عملي الصحفي. كنت وقتها صغيرة السن وحديثة العهد بالعمل الصحفي لذا فقد اختزنت في أوراقي وذاكرتي الكثير من هذه التجربة الثرية الملهمة التي طبقت الكثير منها في عملي الصحفي.

لاحقاً، بعد 11 سبتمبر ستتغير الدنيا وسيوسم الشرق الأوسط بالإرهاب، وسأزور واشنطن في مارس عام 2002 أي بعد ستة اشهر من تلك الواقعة المشؤومة على العرب،  ضمن جولة صحفية لعدد من الصحفيين الخليجيين، في برنامج شبه دعائي للسياسة الامريكية في المنطقة والعلاقة بالعرب والمسلمين بعد 11 سبتمبر، لكن تلك قصة أخرى سيأتي أوانها ذات يوم.