قطعت النساء عبر التاريخ أشواطا طويلة ومنهكة لإثبات الجدارة أمام المجتمع الذكوري الذي يسيطر على حياة البشر لقرون، وهو لايزال موجوداً بل ونقول مهيمناً رغم كل ماتحقق من انتصارات في إتجاه تحرر المرأة وتحريرها. تقول الكاتبة فريدة النقاش، تحفظت طويلا على استخدام تعبير” الذكورية” الذي كان قد شاع في الأدبيات النسائية التي لشدّة تطرقها كادت تختزل الصراع الاجتماعي في ما يشابه الحرب بين النساء والرجال، ووقعت لذلك في أخطاء أدت في بعض الأحيان لخسارة حلفاء لحركة تحرير المرأة من الرجال المستنيربن، حتى أن اوساطا اجتماعية أخذت تنظر بشك للجمعيات النسائية وللحركة برمتها حتى اعتبرها البعض مستوردة. ان تاريخ البشرية الذي يكشف لنا العلم تباعا بعض خفاياه، يدلنا على معالم الطريق الذي قطعته البشرية عبر القرون لتتراكم فيه النتائج السلبية لمحاولات تهميش النساء واقصائهن من الساحة العامة لأسباب بالغة التعقيد والتركيب.
ونبأنا العلم عن مدى الخسارة التي لحقت بالتقدم الإنساني نتيجة لتهميش النساء وإهدار طاقاتهن وصولا في بعض الأحيان لحبسهن في البيت تحت وصاية الأب والزوج، والرقابة المشددة من الأسرة، وتعرف أن الأسرة لاتزال في كل بلدان العالم أسرة أبوية بدرجات متفاوتة، تتحكم فيها إلى هذا الحد أو ذاك الأفكار التي تضع المرأة في مكانة أدنى.
ومع ذلك، فإن حركة تحرير المرأة منذ نشأنها قبل أكثر من قرن قد وقعت في بعض الأخطاء التي أدت إلى تعطيل مسيرتها. ومن ضمن هذه الأخطاء، بل وأبرزها أن البعض من قيادتها قد أعتبرن الرجال — كل الرجال هم خصوم لتحرير المرأة، وترتبت خسائر على هذه النظرة التي تحولت مع الزمن إلى منظومة فكرية أقتربت كثيرا من العنصرية، حيث همشت الصراع الاجتماعي وتداعياته في شتى المجالات لتضع قضية المرأة في إطار ضيق حين أختزلتها في الصراع شبه الأبدي مع الرجل. ولكن التاريخ دأب على تصحيح المنظورات الضيقة والخاطئة. وحين برز في الساحة العالمية والوطنية رجال منصفون، ومنهم مفكرون كبار رأوا أن الإنسان واحد، وان التصنيف الجنسي لا يضيف لأحد أو ينتقص من أخر، جرى بالتدرج تقويض كل الأسس التي قامت عليها العنصرية ونهض باسمها التمييز ضد البشر على أساس الجنس أو اللون أوالدين أو الطبقة. ولكن تقويض ما هو سلبي في الأفكار لا يعني تلقائيا زوال هذا السلبي تماما.
وقد علمتنا الحياة أنه بالرغم كل المياه التي جرت في أنهار المساواة والكرامة الإنسانية والعدالة، وكلها قيم ترسخت وتعززت عبر كفاح البشر والكادحين بخاصة من أجلها، رغم كل هذا لاتزال هناك قيود وأفكار بل وايديولوجيات تتأسس جميعا على دونية النساء. وترتبط هذه المنظومة من الأفكار عادة بالصراع الاجتماعي، ولطالما إنتصر سلاح الأفكار البتار في بعض معارك البشر خلال سعي الكادحين بخاصة للحصول على حقوقهم المشروعة، ويعلمنا التاريخ أن نتائج ممارسة الأفكار تبقى طويلا بعد زوال هذه الأفكار، كما أن الأفكار بدورها لاتزول بسهولة.
كما جرى على الصعيد العالمي توافق الديانات كافة على وضع المرأة في مكانة أدنى، وغالبا ما أرتبط هذا الوضع المتدني بجسد المرأة ووظائفه، إذ إنقسم هذا الجسد بين التمجيد والتحقير. وتميزت الأدبيات الخاصة بأوضاع النساء ومكانتهن بالتعقيد والإرتباك، سواء ارتبط ذلك كله بالديانات أو الفلسفات، وهو ما حدث في كل الثقافات بدرجات متفاوته. ويبقى أن التاريخ حتى حين يعود إلى الوراء خاصة فيما يتعلق بالقضايا الكبرى التي أسهمت بشكل رئيسي في صنع مسيرته، فإنه يعود ويواصل مسيرة التقدم، وهو التقدم الذي تأسست عليه الحضارات عبر التاريخ. وإذا ما تأملنا بشكل نزيه في ماهية القوى التي وقع عليها العبء الأكبر في إنجاز هذا التقدم فدفعت ثمنه، وقدمت التضحيات من أجل إنجازه، إذا ما تأملنا فيه سوف نكتشف أن النساء دفعن ثمنا باهظا. ووجدت النساء حلفاء أشداء على طريق تقدمهن من الرجال مفكرين ومناضلين، وتخلصت حركة تحرير المرأة بالتدرج ومع الصعوبات التي واجهتها من بعض نقائصها واستقرت على خريطة النضال الإنساني من أجل التقدم والحرية والكرامة لكل البشر بأعتبارها جزءا من هذا النضال.
ومع ذلك، يبقى الطريق طويلا ويحتاج الهدف المنشود أي تحرير المرأة لجهود وأفكار، مع نضال أشد ضمن حركات التحرر الإنساني أحزابا ونقابات وجمعيات ودولا. وقد علمتنا التجربة الطويلة لشعوب المستعمرات في مواجهة الإمبريالية وكل أشكال الاحتلال والعنصرية أن نضال الإنسان من أجل التحرر والحرية كان غالبا ما يتكبد خسائر كبيرة بسبب إقصاء النساء وتهميشهن بدعاوى قديمة ورجعية، حاولت هذه الدعاوى طويلا أن تتصدى للحركة التحررية الصاعدة خاصة إذا كانت تضم نساء، وذلك تحت ستار إدعاءات أخلاقية ساذجة ارتبطت غالبا بجسد المرأة الذي شوهته الرأسمالية ومزفته بين العورة والسلعة، وتاجرت به ضمن فلسفتها التي تستهدف الربح بأي ثمن حتى لو كان الثمن هو كرامة البشر وإنسانيتهم.
ولا تزال النساء في كل بلدان العالم يدفعن ثمن الظلم التاريخي الذي رافق المسيرة الإنسانية كلها منذ بدء الخليقة، ولكن نساء كثيرات وباسلات مازلن يتقدمن الصفوف ويجاهدن ضد كل أشكال الظلم ويتحالفن مع المظلومين في كل مكان كانوا نساء أو رجالا. وما ضاع حق وراءه مطالب.
About the author
كاتب بحريني وعضو التقدمي