يفعل المسرح صنيعة كبيرة في التعبير عن أفكار وجودية متعلقة برحلة الإنسان العابرة في الحياة. وتتيح هذه الأفكار إعادة تقليب الثوابت والمسلَّمات، حتى يمكن التوصل إلى القناعة الخاصة التي تؤهل الفرد للعيش حسب اختياراته، وإن كان هذا تحت إدارة وإشراف المجتمع نفسه الذي انتقى له كل حياته بشكل أنيق أو عشوائي. في عرض “قائمة الخديج”، التي تطرح رؤية مبتكرة لم تتناول مسبقاً، إلا بشكل سردي معمق في نص روائي حول حياة الجنين داخل الرحم؛ بيته الأول، ومن ثم رحلة الخروج إلى الحياة، ومجابهة كل ما تأتي به أقداره التي لم يدركها وهو راقد آمن في بطن أمه.
يخوض هذا العرض الفلسفي في الاختيارات التي خلق كل البشر بها، عبر فكرة فنتازية تميل للشكل الكاريكاتوري المضخم، وهو أن يختار الجنين المتكور في بطن والدته حياته بنفسه؛ بدءاً من أنه لا يريد البكاء مثل بقية الأطفال، لأنه لا يرغب أن يكون نمطياً وشبيهاً بمن سبقوه، بل أن يظهر قائمته التي أعدها طوال فترة وجوده في رحم والدته، والتي تؤهله لأن يكون مختلفاً عمن سبقه، ونموذجياً. وعلى “قائمة الخديج” يضع الجنين قائمة أمنياته المتعلقة برغبات وجودية صرفة، وحق مطلق أن يحيا كما يفضل هو، وليس كما يقرر الآخرون له.
وهذه فكرة مغرية من نص مبني بشكل ناضج، يعطي مقترحات غير ملزمة، فيأتي مخرج مغامر ويضع رؤيته التي تؤكد أن النص حمّال رؤى، إن استطاع المخرج إلى النص سبيلاً. لذا عمد إلى أن يربط الجنين في وسط المسرح قبل ولادته، وأثناءها، في الأسبوع السادس والثلاثين، الذي يعد مبكراً بالنسبة للأطفال الآخرين، وهو بذلك يعطي إشارة لخلل قادم، دون التصريح به مباشرة، لكن المتلقي قد يغفل عنه مقابل الأداء الحركي والتمثيلي العالي للممثل “محمد جمعة” في دور “إنسان”، المربوط برافعة ذات حبال ممتدة في وسط الخشبة، وهو يحاكي حركة الجنين الذي سيخرج إلى الحياة بعد قليل. وبعد معاناة، وتردد، وإلزام، تلفظه البطن مضطرة، في مشهد البداية الذي حمل جزءاً كبيراً ومشبعاً من ثقل العرض، حيث الاستهلال والتفاصيل التي تمنح بقية العرض ما يبنى هنا.
فالجنين، الذي كان يغط في نوم عميق، يقلق من المداعبات العاطفية بين والديه في توقيت لا يراه مناسباً في البداية، لأنه يريد أن ينام. ولأنه رأى ما رأى أثناء الأشهر الفائتة من حياته، والمكان ضاق به، فإنه يتوسل لأبيه أن يتحكم بغريزته، وينادي أمه بألّا تجاريه، لأنه يعجل بتوقيت خروجه قبل أن تنضج الثمرة بالكامل. وهذا التصور يحيل إلى أكثر من كونه مجرد جنين بشكله المادي هنا، حيث يمكن أن يكون فكرة أو رأياً تكون ذات شهوة، وخرج إلى العلن أيضاً بشهوة؛ فكرية، أو سلطوية، أو حتى في حب النزاع، فظهر ناقصاً، مشوهاً، حتى لو دل مظهره على غير ذلك. ولا بد من الإشارة هنا إلى براعة المخرج في رؤيته للنص، من حيث اجتياز المشاهد التي قد تدخل في التابوهات المألوفة. ولكن نظراً للأهمية التي تبنى عليها من حيث إن الجنين قد يكوِّن فكرة كما ذكرنا، لم يفت العرض أن يبرز هذا الجانب من الاقتراب بين الزوجين بصورة مقبولة وكوميدية أيضاً، مقرونة بكلام الجنين المعترض.
وتنحصر قائمة الأمنيات المثالية للجنين في اختيار ما لا يختاره الناس عادة. فهو يرفض البكاء أول ولادته، ولكنه يضطر لذلك. يفشل في تغيير عائلته عبر رغبته في اختيار والده، ولم ينجح في هذا أيضاً. حتى الأذان الذي اعتاد الآباء أن يصبوه في آذان أبنائهم حديثي الولادة، في رمزية ظاهرة لاختيار الدين، لم يستطع أن يمنع أباه من ذلك! فهو بالتبعية يحمل ديانة أهله، حاجته لدعاء والديه في الشدة والمرض. أن يرفض ما لا يحب بكلمة “لا” بعد أن سمعها مراراً منهما، فيقولها في أوقات ومواقف كثيرة. أن يحتفظ بالحبل السري معه في الخارج، حتى يكون “فريداً” من وجهة نظره، لكنه قطعاً لا يعطى ما يتمنى. أن يشرب العصير أو العسل بدل الحليب الذي لا طعم له! حتى قراره بالإنجاب، لم يكلل بالنجاح، لأن هذا الخديج قد أتى سليماً في جسده بالكامل، ما عدا أن سلالته ستنتهي عنده، كأنَّها بالضبط نقطة بداية ونهاية؛ لم يختر بدايتها، وقطعاً ليس له يد في نهايتها.
كل قائمته هي “المختلف عليه” بشرياً؛ نولد جميعاً – كما ولد هو- بلا ملامح، وبلا أي متاع تعريفي يصنفنا، الأهل والمجتمع يفعلان اللازم بهذا الخصوص، والنتيجة أننا نرانا فجأة في مواجهة المختلفين عنا؛ ندافع، ونحمي، ونظهر أننا، وعائلتنا، وبلدنا، وجنسيتنا، وعاداتنا، وأخلاقنا، وأعرافنا، وطريقة عبادتنا تقرباً إلى الله، كلها جميعاً الأفضل والأصح، وكل ما لا يشبهنا هو خطأ بالضرورة، أو على محمل آخر هو أقل منا! من أين استقينا هذه الفكرة؟ وكيف ألِفناها إلى هذه الدرجة، حتى بتنا نستميت للدفاع عنها في الحالات المعتادة؟ وحين تصل هذه الفكرة إلى الحد الأقصى من التشبع، يستيقظ التطرف، وتقوم النزاعات الكبيرة بدعوى هذا الاختلاف! أوليس “إنسان” على صواب حين كتب قائمة أمنياته غير الواقعية؟ على الأقل سيتحمل هو تبعات اختياراته الفردية.
وفي قائمة الخديج الذي استعرض فيه “إنسان”، ليس القدرة الجسدية العالية عبر الأداء الحركي المميز وحسب، بل القدرة على التنقل عبر المراحل العمرية؛ جنيناً، وشاباً، ثم كهلاً، متمسكاً بكافة الأدوات الجسدية التي تشبع المرحلة العمرية التي يشغلها في المشهد، ثم يقفز بمهارة إلى المرحلة التالية بإشارة بسيطة للتغيير في اكسسوار أو زيادة قطعة في الملابس، عدا أن المراحل كانت متلاحقة وسريعة، وهذا يحتِّم على الممثل أن يتبدل جسدياً ونفسياً، ويقنع جمهوره بهذا التبدل، بمساعدة العناصر الأخرى الموجودة على الخشبة.
نفذ هذا العرض بسينوغرافيا دقيقة وبسيطة؛ فالخشبة التي كانت تخلو إلا من قطع محدودة ومتعددة الاستعمالات، مثل سرير الزوجية، وسرير المستشفى، والإسعاف، والسيارة، والتنقل بين المراحل العمرية الذي يتقدم بإضافة اكسسوار، وتغيير إضاءة، أو إظلام جزء كبير من الخشبة، كفيل بإعطاء هذا الزخم في التفاصيل حقه وأكثر، دون الحاجة إلى إسراف من أي نوع، عدا بعض المناطق التي كانت تحتاج إلى إنارة أكثر في بعض الأحيان حتى توضح ملامح الممثليْن “عادل سبيت وعبير الجسمي”. واستخدم المخرج كذلك تقنية العدسة المكبرة لإيصال فكرة فحص الجنين المعمول بها بعد الولادة، عبر تقسيم الخشبة إلى جزءين؛ أحدهما للبطل، والآخر للممثليْن مع الطبيبة، وهي بلا شك مصدر كوميديا في الأجواء الفنتازية التي ذكرنا، لكن لسبب ما جعل من الحركة في يد الطبيبة وهمية، أي خالية من أي دمية يمكن أن تأخذ دور “إنسان” بمعزل عنه، ووجود الدمية سيصدق الأداء أكثر في محاكاة حركتهما معاً.
والمؤلف علي جمال كان على يقين بأن الجميع لديه قائمة الخديج الخاصة به، لذلك كتب هذا النص الذي يلامس الأمنيات، ولا يستطيع أن ينالها. وأيضاً المخرج عبدالرحمن الملا الذي أجاد تفريغ النص بفلسفته، وفي قالب كوميدي جاذب غير مفتعل، يجنّب العرض التسطيح أو الضحك بغير مغزى. هما متفقان أن “إنسان” بطلهما ليس الخديج الوحيد، لأننا جميعاً خُدَّج بشكل ما؛ خلقاً أو عقلاً، أقدارنا مختلفة، أرزاقنا متفاوتة، ومهما تشابهنا في الملامح، لا يمكن أن نكون واحداً، كل فرد يتكفل وحده بتكاليف رحلته العابرة. وحتى مع إصرارنا على التغيير، فإن هذا الإصرار لا يطال إلا التفاصيل الصغيرة التي نسعى لجعلها مختلفة. أما المفاصل، وأقدار الحياة الرئيسية، فإنها تكون محتومة ومقدرة، وتدخلنا في متاهة التخيير أو التسيير المختلف عليها، رجوعاً للعقيدة، ومقدارها، وتقسيمات موجهيها: هل هي إيعاز ذاتي، أم أن الإنسان مجبر عليها، وينفذها حسب الخطة المكتوبة له؟
وحتى يكون إنساناً سوياً، هل يغالب نوازع الشر، أم يستسلم للذة التي يظن فيها أنه سيطر، أو انتقم، أو انتصر؟ وهي لذة حقاً حتى لو كانت متوارية، تكشفها النفس الإنسانية في المواقف التي تتطلب مغالبة الرغبة أو طاعتها. وسواء كانت نفذت خطة حياته المكتوبة مسبقاً، أو اجتهد الإنسان في صنع منهجه بذاته، ستنتهي في وقت ما دون أن يعرف أحد تاريخ الانتهاء، كما حصل مع “إنسان”، وهو لم يختر يوم منيته، وتلك كانت الأمنية السابعة لــ”إنسان؛ التي لم تتحقق، ورغم هذا تمضي الحياة، ونحن موعودون أن نفارق، أو نفارق حين تنتهي هذه الرحلة القصيرة.