حزينة هي الحياة عندما يُضطهد كاتب أو أديب، مُوجع أن تكون العائلة هي من تقترف هذا الجُرم المُخزي وتُمعن في إيذاء أقرب الناس إليها، وبالخصوص إذا ما عرفنا بأن من لاقى هذا الظلم والاضطهاد هي مي زيادة الأديبة والكاتبة المرموقة.
“ليالي إيزيس كُوبيا” هي رواية تفطر القلب، تعيشها بحزن وفي ذات الوقت باستغراب مشحون بالأسى، شيء لا يصدق أن تقوم عائلة بإصدار حكماً بالإعدام على كاتبة مُبدعة بحجم مي زيادة واتهامها بالجنون وتُأخذ عنوة إلى مستشفى المجانين”.
“أتمنى أن يأتي بعدي من يُنصفني، أراني في وطني تلك الغريبة الطريدة التي لا وطن لها” والكلام هنا لمي زيادة. كلام موجع نابع من صميم القلب المتألم والموجوع والمجروح، لم تنصفها الحياة مع أهل أذلّوها بل أمعنوا في إيذائها والغدر بها، عندما اتهموها بالجنون ليستولوا على أموالها وعقاراتها بعد موت والديها، وهي التي أحبت إبن عمها جوزيف زيادة الذي مارس عليها كل هذا الإضطهاد المقيت والبشع. “أفظع عقوبة، هي أن يُسرق من الإنسان حقّه في الوجود”، كما يقول واسيني الأعرج في هذه الرواية الرائعة التي أراد بها ردّ الاعتبار لهذه الانسانة الجميلة الرقيقة مي زيادة.
مستشفى المجانيين، العصفورية، الذي زُجت فيه ظُلماً وبهتانًا بهدف قميئ من أجل الاستيلاء على ميراثها وأموالها بعد أن أثار غناها المادي شهية الجشعين من الأهل وهي ما زالت على قيد الحياة أمر يدعو إلى الدهشة والاستغراب والريبة والنفور من تصرف كهذا ينم عن الجشع الذي يحوّل الإنسان إلى وحش يفقد بموجبه إنسانيته، ضميره وأخلاقه ومُثله.
كان وصفها لوجودها في مستشفى المجانين، العصفورية قاسياً وموجعاً تقشعر له الأبدان إذ تقول: “لست أدري إذا ما كان الموت السريع هيّناً. أمّا الموت البطيء طيلة عشرة شهور وأسبوع من التغذية القهرية … الخ، ومع ذلك كان أقاربي في زياراتهم النادرة، يستمعون إليّ بسرور وأنا أصف نكالي وشقائي راجية منهم عبثاً أن يرحموني ويخرجوني من العصفوريّة.”
هذه المرأة قُتلت قبل موتها، فالعزلة موت بطيء وبالتقسيط، حين تُركت تموت في بلادة الصمت والخوف والمرارة، الكل تخلى عنها حتى أصدقائها وأقرب الناس اليها، مصدقين رواية الجنون وتركوها تتعذب وحيدة تحت وهج الظُلم وعتمة مستشفى العصفوريّة وجشع أهلها وانصراف أصدقائها عنها. فهل هناك ظلم وقسوة أقسى من هذا الظلم؟
يقول عنها واسيني الاعرج في الرواية “مي كانت امرأة أخرى، من معدن نادر لا اسم له. أعطت كلّ ما لديها، ولم تترك لنفسها شيئاً”. أديبة منحت روحها وحياتها لكل ما هو جميل ومشرق في هذه الدنيا، لا أحد سمع نداءاتها واستغاثاتها، ولا أحد كلفّ نفسه عناء سماع شكاواها والظيّم الذي حلّ بها والغبن الذي أصابها والوحشة التي ألمت بها والخوف والقلق الذي أنتابها بعد اتهامها بالجنون فظلت سجينة خوفها من أن تموت في تلك المستشفى العصفوريّة ولم يُسمع بألمها ونداءاتها أحد.
تقول مي: “كلّ رسائلي، ارتطمت بأسوار العصفوريّة الثقيلة. لا أملك سلاحًا غير هذا، كنت منهكة وضعيفة، ومقاومتي انهارت كُلياً. لم أكن أنا. كنت شيئاً آخر إلا أنا”. كل هذا يحدث لإمرأة غير عادية، بل أيقونة وطنية وقامةً أدبية وصحفية مرموقة وكاتبة رفيعة ليس في لبنان فحسب بل على مستوى الوطن العربي، فقد كانت تتقن تسع لغات: العربية، الفرنسية، الإنجليزية، الألمانية، الإيطالية، الإسبانية، اللاتينية، اليونانية والسريانية، فكتبت ديوانها الأول (أزاهير حلم) بالفرنسية وكتبت بالإنجليزية (الظلّ على الصخرة).
وبشجاعة لا تلين كطائر الفينيق قامت من تحت الرماد حتى وسط ضراوة الآلام وقالت جملتها الشهيرة “أجمل ما يقوم به المظلوم هو أن يعذّب قاتله بنجاحاته فقط”، ولكن تظلّ رائحة الليالي المُظلمة التي سرقت من مي زيادة شاخصة تؤرقها مما جعلها تعيش وضعًا غير مأمون العواقب، ثقيلاً تحملته بصبر بعد عذاب وألم حتى استطاعت بفضل من عرفها من محبيها وممن يكنون لها احتراماً ككاتبة معروفة أن يخلصوها من تلك المحنّة ومن ذلك العذاب المرير ومن تلك المعاناة القاسية.
ماتت مي زيادة في القاهرة ولم يتجاوز عمرها الخامسة والخمسين عاماً يوم الأحد في العاشرة وخمس دقائق في التاسع عشر من أكتوبر سنة 1941 وهي مسكونة برماد الخيبة والظلم، وبقت كلماتها الأخيرة في عتاب إبن عمها جوزيف زيادة محفورة بألم في قلوب من عرفها تقطع نياط القلب: “أبقاني عنده شهرين ونصف شهر على مضض منّي، وأنا أُطالبه بالعودة. حتى استكمل برنامجه في أمري، فأرسلني إلى العصفوريّة، بحجة التغذية، وباسم الحياة، ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين أحتضر على مهل.”
لقد صنعوا لها مصيراً قاسياً وقدراً مأساوياً سلب منها كل ما كانت تأمله في حياتها من حبّ ومن ألق وجمال في علاقاتها مع الادباء والكتّاب في مصر ولبنان: طه حسين، سلامة موسى، لطفي السيد، إسماعيل صبري، عباس محمود العقاد، هدىً شعراوي، أنطوان الجميل، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، أمين الريحاني، جبران خليل جبران، كلّ هؤلاء الأدباء كانوا يزورونها في صالونها الأدبي في القاهرة فكم كانت مكانتها ومحبتها رفيعة لديهم بفضل عبقريتها الأدبية.
وفي آخر ما دونته في المخطوطة التي وجدت بعد بحث مُضني “دعوني الآن أحلم فقط ولو في عمق الغياب. يحقّ لي ذلك، ولو لثانية واحدة، قبل أن أسير بخُطى هادئة نحوأبديّة الخلاص.
في مخطوطة “ليالي العصفوريّة” التي كتبتها قبل رحيلها دونّت شجونها وألآمها وانكساراتها بلمسة أدبية وإبداعية، عمل فني وجمال أدبي، فكانت تلك المخطوطة أهم وأصدق ما كتبته في حياتها. ومن يقرأ تلك المخطوطة لا بد وأن يشعر بالألم واللوعة والحزن لهذة الإنسانة الذكية، المثقفة، النادرة، على الرغم من النهاية التراجيدية التي انتهت بها إلى مستشفى المجانيين.
وتظل جملتها الموجعة “إنّي أموت، لكنيّ أتمنىّ أن يأتي بعدي من يُنصفني”، وصمة عار في جبين من قسى عليها بجنون دون رحمة وقتلها وهي في عزّ تألقها.