“وظيفة الفنان: أن يتكلم ثم يموت..”.
صلاح عبدالصبور في مقدمة مسرحية “مأساة الحلاج”.
يلخّص الشاعر الكبير معانيَ كثيرة بمقولته المقتضبة هذه، في التعبير عن عطاء الفنان غير المطالب بالشرح أو التوصيف لما يقدمه؛ يلقي بفنه حيث يرى، ويمضي تاركاً للآخرين عبرة، ودرساً، أو حتى تسلية وفرجة، أو أي إشارة يمكن أن تقود إلى التأويل حيث أريد له: من المرسل والمتلقي في آنٍ واحد.
ولأن الفن هو الخير والحق والجمال، أو ما يعادلها في انعكاسه لمجتمعه، فالنقيض أن يظهر حتى القبح، لكن بـ”فن”، حتى يكون مقبولاً وقابلاً للفهم. هذا أدعى لمناقشة أي قضية، مهما كان تاريخها في ذاكرة مجتمعها، ولتكون الصورة مقربة بشكل كافٍ ليأخذ المتلقي قراره بالتبرير للقبح وإيجاد مسوغات قام عليها، أو بترسيخ فكرة ازدرائها، والبعد عنها، وخلق المسافة الكافية لتجنبها وتجنيب الآخرين منها، عبر خلق النموذج المثير للاستياء.
من النماذج غير المقبولة التي تقدم هي الشخصيات الشاذة التي تظهر على خشبة المسرح، أو عبر الشاشات، لتجسيد شخصيات غير مألوفة، وتظل شاذة أيضاً! والمعنيّ بالشذوذ هنا مشمول بما له علاقة بالجنس، أو بالسلوك في المجمل، ذلك أنه مهما لُقِّم المجتمع من ترويج للتقبل والرضوخ بأنها حالات موجودة ويجب أن يعترف بها، تظل في طور مختلف لا يلامس إلا جزءاً ضئيلاً جداً في المجتمع -حسب الظاهر- بينما لا يتقبل معظم الناس وجودها، ويفضلون تجنبها، وهو أضعف إيمان التعامل مع “المختلفين”، أياً كانت دوافعهم الناتجة عن حالة مرضية مرتبطة بخلل فسيولوجي/ سيكولوجي، أو أنها رغبة متطرفة من الشخص نفسه، تظل في المخيلة العامة أنها خروج غير مرغوب فيه عن القاعدة، وانحراف عن السلوك الطبيعي المعروف.
وتعبير الفنون في هذه الناحية أخذ أشكالاً متعددة منذ القدم، وتشهد اللوحات والجداريات عن تعبير الفنانين لهذه الحالات، وبعض الأدبيات، وكذلك تظهر الأخبار التقارير أو الكتب عن بعض هذه الحالات، مثلما أشار كتاب “الشواذ المائة” الذي صدر في بريطانيا عن شخصيات تاريخية لها منجزها المعروف في الفلسفة والرسم والموسيقى وغيرها. وربما كان استدلالاً غير معتد به؛ بسبب البعد الزمني، ولأن الإشارات في هذه الحالة ما لم تكن صريحة من أصحابها، فلا يمكن التأكد من صحتها، بالإضافة إلى مسألة أنه لم يفكر البعض بتشويه منجز الآخر عبر إقرانه بأفعال غير مقبولة؟ حتى لو كانت هناك مجتمعات تصطنع حقوقاً لهؤلاء الأقلية تحت مسميات مختلفة.
وبينما تعد هذه الناحية شخصية إذا التزمت الخصوصية، وبالذات في المجتمعات العربية والإسلامية التي لها حدود صارمة تخص الحكم على هذه الفئة -والتي حرمتها بالإجماع الديانات السماوية- لكن يبقى تقديم هذه الشخصيات غير المقبولة جزءاً من انعكاس بعض المجتمع. والنماذج المرئية ترسخ في ذهن المتلقي أكثر من أي قراءة أو مشاهدة، خصوصاً لغير المطلعين أو غير القراء. لذا وجب تقديم هذه الشخصيات بحذر شديد، لكي لا يكون هناك أثر إيجابي ومؤثر، بل يكون لاستعراض الحالة، وتحديد حجمها وموقعها من خريطة المجتمع، وما يمكن أن تؤول إليه. وهذا ما ينطبق بالضرورة على الفنانين/ الفنانات الذين قدموا هذه الشخصيات، وانعكاسها على السمعة وحياتهم الشخصية التي يطالها الكثير.
هذه الأدوار التي قدمت في الدراما مرات محدودة بشكل صريح يوضح أن للشخصية ماضياً وتاريخاً من هذا الفعل الشاذ، وليس فقط تلميحات متعلقة بالشكل الذي يظهر به الممثل، وهيئته الدالة على عدم سويته. ولعل من أبرز هذه الأدوار كانت لـ”حاتم رشيد” في فيلم “عمارة يعقوبيان” لمؤلفه وحيد حامد، والذي تقمصه الممثل خالد الصاوي، رئيس التحرير المرموق الذي يستهدف المجند القادم من بيئة بسيطة لممارسة الرذيلة، وحين ينتفض الأخير للفعل، يسكنه رشيد بجملة مبررات “مقنعة” لعقله المحدود الذي يأتي بمفهوم أن ما يطلبه رشيد “عيب وحرام يا بيه”، يقتنع أن “الزنا” أخطر، بسبب ما قد ينتج عنه من اختلاط أنساب! وعندما يفيق المجند من غفلته بعد موت ابنه، الذي اعتبره غضب الرب الذي يهتز العرش لفعل “اللواط”، يعود رشيد لحالة التيه، وعدم الاستقرار، والبحث. وحين يعثر على شريك بديل، يأتيه ويخنقه ويسرقه، لتأتي كنهاية مرضية لفعله المستنكر، ونهاية أخلاقية تتناسب مع رغبة المتلقين عموماً في وأد هذه الشخصية، حيث لا يعيش عقل سليم في جسد يحمل نوازع غير سوية، ووسيلة التطهير التي تضع حلاً قدرياً لمأساته المرتبطة بطفولة منتهكة مع الخدم، فلا فكاك منها.
الممثل الراحل “حسن عابدين” من الفنانين الذين وضعوا لأنفسهم شكلاً ملتزماً في تقديم سلوك الشخصيات التي يجسدونها. وتذكر بعض الأخبار الفنية أنه كان يضيف إلى مشاهده الوضوء والصلاة -على سبيل المثال- لإدراكه الأثر الذي تتركه الدراما على المشاهدين. لكن كل السيرة الطيبة التي كوّنها خُذلت في الدور الذي قبله في فيلم “درب الهوى”، إذ قدم شخصية رجل السلطة الذي يظهر بشكل مثالي نهاراً، أما في الليل فيكون الشخصية “المازوخية” التي ترتاد أحد بيوت الدعارة بحثاً عمن تعنفه وتعامله بقسوة، كما يعبر وهو يربط وسطه بقطعة قماش كما الراقصات: “أنا عايز وحدة تهزأني، تهزأني، تهزأني”، وهو اضطراب نفسي جنسي يتلذذ صاحبه بالتعرض للألم والعنف والإذلال، وغالباً ترتبط هذه النوعية بأشخاص ساديين يستمتعون بإيذاء الآخرين على أوجه عدة، وهو دور لا تذكر المصادر أنه قُدم إلا نادراً.
أما الفنان القدير فاروق فلوكس، فقد يظن الكثيرون أنه قد أخذ سمعة “الشخصية الشاذة” في الفيلم الشهير “الراقصة والسياسي”، حيث كان مساعد الراقصة، والذي توحي تصرفاته بنعومة ملحوظة، رغم عدم بيان تصرفات صريحة له. وقد جسّد فلوكس هذا الدور قبلها بكثير في فيلم “درب الهوى” أيضاً بشخصية “سكسكة”. ونفس هذا الدور أيضاً استهوى الفنان عادل أمام حتى جسده في فيلم سيد درويش، وعبر عن ندمه لقبوله الدور في أكثر من مرة. وقد بيّنت بطلة فيلم “الراقصة والسياسي”، الفنانة نبيلة عبيد، طبيعة مساعدها شفيق، بعد أن يُرفض طلبها لبناء دار للأيتام بحكم مهنتها التي يراها المسئولون غير جديرة برعاية أطفال هم أصلاً أطفال شوارع. ونتيجة لجدال طويل بينها وبين المسئول المباشر، تقترح عليه أن تفتح المشروع باسم “شفيق ترتر”، لأن صحيفة سوابقه نظيفة كما هو مطلوب. وحين يوافق عليه، تصرح له الراقصة بأنه “شاذ”. فهل هذه الشخصية قادرة على تربية أطفال؟؟
هذه أو غيرها من الأدوار الجريئة لفنانين عرفوا بالإتقان في مهنتهم، وتجسيد الشخصيات بإبداع مثير للإعجاب، لا بد من ثمن دفع مقابل موافقتهم على هذا الظهور. الصاوي ظهر على قناة تلفزيونية في لقاء أعلن فيه أنه غير نادم، لكن لو عاد به الزمن فلن يقبل بهكذا مغامرة جلبت عليه الكثير من الشكوك، خاصة في شكل “المثلي” الذي أجاد كثيراً من تفاصيله الصغيرة والمؤثرة، وهو الذي يميل لأبناء جنسه فقط، بينما “الشاذ” هو الذي يمكن أن يكون طبيعياً ويتزوج من الجنس الآخر، بل وينجب أيضاً. وقبول الدور اعتبره الفنان “انتحارياً”، ولا يصلح لمجتمعاتنا، لصعوبة الفصل بين الشخصية والحقيقة. ولولا إخلاصه في مهنته التي يحبها ويجيد كل الأدوار التي قبلها، لظل هذا الدور وطبيعته ملتصقة به!
حسن عابدين قام بطرد مخرج ذلك الفيلم (حسام الدين مصطفى) من بيته، على اعتبار أنه غير أمين، وأظهره بشكل غير لائق، حيث كان الاتفاق أن يظهر بشكل مغاير ربما عما ظهر عليه، وسبب له الكثير من الأذى الذي طال عائلته أيضاً، مما أصابه بحالة اكتئاب اضطر بعدها للجلوس سنوات في البيت جراء ذاك الدور الذي اعتبره عابدين مشيناً في مسيرته الفنية. أيضاً فلوكس، الذي أبدع في تقديم الدور بتفاصيله، لم ينجُ من تشابك أبنائه مع زملائه في المدرسة بسبب معايرتهم بدور والدهم في الفيلم، ولم ينجُ هو شخصياً من استفزاز زملائه -حيث يعمل مهندساً بالأساس- من التلميحات غير البريئة.
هؤلاء وغيرهم فنانون يشهد لهم الجمهور بالأعمال الفنية المميزة، والسيرة الطيبة التي تمنحهم حباً مضاعفاً، وقد جازفوا بتقديم هذه الأدوار، حيث إنهم يعون تأثير الدراما بأشكالها على المتلقين، وكيفية التصاق أدوارهم التمثيلية بصفاتهم الحقيقية في الحياة، كما يحصل مع الممثل المصري حمدي الوزير، ويشار إليه بوصفه “أيقونة الاغتصاب” في مصر، وهذا بسبب ظهوره في فيلمين أو أكثر، بالإضافة إلى مجمل أدواره التي تميل إلى كفة الشر، جعلت من صورته المشهورة تلك متداولة في ما يسمى الـ”ميم” و”الكوميكس” منذ وقت أدائه لهذي الشخصيات التي تعود إلى الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي!
وهي أدوار مهمة، حتى لو كانت ضد الإيطيقيا، أو النظام الأخلاقي الذي تميل إليه جموع الناس الراغبين في العيش ضمن أطر أخلاقية معنية بالعدل والمساواة والحرية بينهم. لكن هذا لا يتحقق إلا بوجود النقيض؛ كما في اللونين الأبيض والأسود اللذين يوضحان قيمة بعضهما حين يجتمعان. ورغم أن ما ذكر من نماذج ليست شراً مطلقاً، وقد تلاقي استنكاراً وازدراءً لطبيعة الشخصية غير المقبولة، لكنها نماذج موجودة، سواء استخدمت في الفن، أو تجاهلنا سوءات المجتمع ولم نناقشها حتى تزداد وتصعب السيطرة عليها. لهذا وغيره، مطلوب من الفن -من ضمن وظائفه الكثيرة جداً- أن يتبع بعمق ما قاله صلاح عبدالصبور: يقول ويمضي، وحسب.