تثبت تجارب الأمم المتنوعة أن المجتمعات الأكثر تطوراً واستقراراً في الجانب الاقتصادي، هي المجتمعات التي تتمتع بمستوى عال ومتنوع من الحقوق المدنية والسياسية، وأن المجتمعات التي تعاني من مشكلات وأزمات اقتصادية واجتماعية يدفع ثمنها الغالبية الساحقة من أبنائها، هي المجتمعات التي تفتقر للحقوق المدنية والسياسية.
إن تعميق وتنوع الممارسات الديمقراطية يمكٌن المجتمع من تشكيل أحزاب سياسية قوية وفاعلة تتنافس على خدمته، وتمكن المجتمع أيضا من اختيار القائمين على إدارة مختلف شؤونه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكذلك يحاسبهم في حال فشلهم في تنفيذ برامجهم. ومن شأن تعميق الديمقراطية أيضا تصحيح مسارات الإصلاح الاقتصادي، والذي يعني بالضرورة انعكاس عائدات النمو الاقتصادي على مختلف فئات المجتمع، بعيدا عن تقسيم المجتمع إلى طبقة صغيرة متضخمة المنافع، وأخرى تشكل الغالبية الساحقة، يتراجع مستواها المعيشي ودورها داخل المجتمع.
حين تناول الكاتب والباحث الأردني أحمد عوض أهمية الإصلاح السياسي الديمقراطي في العالم العربي، أوضح أن من شأن تعميق الممارسات الديمقراطية وتنوعها داخل مكونات المجتمع، تمكين مختلف فئاته وشرائحه من تنظيم نفسها على قاعدة المصالح المشتركة، وتخلق حالة من الشراكة الحقيقية بين مختلف هذه الفئات من خلال وصولها إلى حالات من التوازن المرنة داخل المجتمع، فالنقابات العمالية “المستقلة والمنتخبة بحرية” ستمكن العمال وممثليهم من التفاعل والتصارع السلمي مع أصحاب العمل وممثليه من جمعيات ونقابات أصحاب العمل “المستقلة والمنتخبة بحرية أيضا” ليصلوا في النهايةِ إلى حالة من التوازن الاجتماعي تحقق فيها كل جهة اهدافها ومصالحها دون الإضرار بمصالح الجهة الأخرى.
إضافة إلى ذلك، فإن تنوع وتعميق الممارسات الديمقراطية سيضع جميع المواطنين تحت القانون بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وسيضع حدا للامتيازات التي تتمتع بها فئة دون أخرى، وبالتالي سيتمكن جميع الموطنين من الحصول على حقوقهم. وستضع حدودا لمختلف ممارسات الفساد الاداري والمالي التي تسلب المجتمع خيراته وانجازاته، وستمكن مؤسسات الدولة والمجتمع من ملاحقة من يمارسون الفساد بكفاءة عالية.
لقد أصبح الإصلاح الاقتصادي الشغل الشاغل لمعظم الدول التي تواجه متاعب اقتصادية بسبب المديونية العالية أو تدني مستوى الإنتاج، أو بسبب الفساد الذي استشرى وأثر سلبا على التنمية. إن المهمة الأولى لأي نظام حاكم أن يوفر الحياة الكريمة والأمن للمواطنين، من خلال الاستثمار الأمثل للموارد وضبط الاقتصاد ومحاربة الفساد والهدر وزيادة الإنتاج. ثمة رؤية اقتصادية رصينة تذكر أن دول الرفاه والتي يقوم بها القطاع الحكومي بتمويل التعلم والصحة والوظائف، أصبح متعذراً حتى لدى الدول النفطية التي لديها عائدات هائلة وعدد قليل من السكان، حيث أصبحت هذه الدول تلجأ إلى القطاع الخاص لإدارة اقتصادها، كما بدأت تفرض الضرائب على سكانها.
إن توجه العديد من الدول نحو ما عرف بالإصلاح أو التصحيح الاقتصادي سواء بسبب أوضاعها الداخلية أو بسبب ضغوطات خارجية من الدائنين، قد أوجب على المواطنين أعباء كبيرة كانت تتحملها الدولة سابقا، حيث أصبحت الدولة تدريجيا تطالب المواطنين بدفع الكلف الحقيقية للسلع والخدمات التي تقدم لهم، وبدأت سياسة رفع الدعم عن المواد والسلع الأساسية الأمر الذي أدى إلى إلحاق ضرر كبير بالطبقات الفقيرة والتي كانت تشعر بقدر من الحماية سابقا. وبذلك اتسعت دائرة الفقر والعوز والبطالة.
يرى البعض – وإن اختلفنا بعض الشيء مع هذا الرأي – أن الانتقال من اقتصاد يسيطر عليه القطاع العام إلى اقتصاد يسيطر عليه القطاع الخاص، يعيد توزيع الثروة بطريقة مختلفة عن السابق عندما كان القطاع العام يشرف على إدارة الاقتصاد، من هنا تظهر تشوهات اقتصادية كبيرة في سياق هذا التحول من حيث عدم عدالة التوزيع للثروة فالأغنياء أصبحوا أكثر غنى والفقراء أكثر فقراً، لأن آليات السوق وحدها ليست كافية لتوزع الثروة توزيعاً عادلاً.
إن الإصلاح الاقتصادي ينبغي بالضرورة أن يرافقه إصلاحات سياسية ديمقراطية، فالتغير في نمط الاقتصاد يرافقه بالعادة ازدياد بالمطالب السياسية المتعلقة بالتعددية السياسية ممثلة بالأحزاب ووجود مجالس نيابية منتخبة بطريقة نزيهة وعادلة، وذلك لتوفير الشفافية ليتمكن الشعب من الرقابة والمشاركة في اتخاذ القرارات الاقتصادية والسياسية التي ستؤثر على نمط حياة المواطنين ومنع الفاسدين من العبث بمقدرات الدولة ، وذلك لتصل الدولة إلى الحاكمية الرشيدة وقطع الطريق أمام الاستغلال والفساد بكافة أنواعه، والذي يكون له تأثير مدمر على الاقتصاد، كما له عواقب سياسية ضارة، ومن هنا تظهر الحاجة إلى وجود قانون أحزاب متطور يكفل تفعيل الحياة السياسية وتشجيع المواطنين الانخراط فيها، وقانون انتخابات يكفل إيصال ممثلين حقيقيين للقوى الفاعلة في المجتمع، وقانون لتقصي الذمة المالية يكفل منع الفاسدين من الوصول إلى غايتهم، أو التمكن من ضبطهم وملاحقتهم.
الخلاصة إن أي إصلاح اقتصادي لا تواكبه عملية إصلاح سياسي ديمقراطي سيكون مرتعا للفساد والفاسدين، فقد ثبت أن الأنظمة غير الديمقراطية، كانت تقبع على قدر كبير من الفساد وهدر المال العام، ونهب الثروات لعدم وجود نظام سياسي فعال وشفاف وعادل.
About the author
كاتب بحريني وعضو التقدمي