حول رحلة تشيخوف إلى سيبريا وجزيرة ساخالين

0
137

” ليس ما شاهدتهُ بل كيف رأيته”

في  مايو 1889 كان “تشيخوف” ذو التسعة والعشرين عاما يقضي فترة الصيف مع عائلته في إحدى قرى الريف الأوكراني. كعادته في كل صيف، قسم وقته مابين الكتابة الابداعية، وممارسة هوايته المفضلة في صيد الأسماك في الانهار والبحيرات.

كل شئ في حياته آنذاك يشير الى أنه كان يعيش عصره الذهبي بإمتياز:  بين عمر العشرين والثامنة والعشرين كان قد نشر528 قصة، مما دفع العديد من كتّاب سيرة “تشيخوف”  الى إعتبار سنوات 1885 – 1889 من أكثر سنين حياته سعادة، ووصل فيها الى قمم النجاح الأدبي والرفاه والاستقرار المادي له ولعائلته.

ولكن شيئاً ما لم يكن على مايرام في مزاج تشيخوف في ذلك الصيف. يمكننا تلمس ذلك عبر رسالة  غريبة نوعاً ما، بعثها الى صديقه وناشره “سوفورين” في 4 مايو 1889 حيث نقرأ التالي:

“أنا لا أحبّ المال بما فيه من الكفاية حتى أهتم كثيرا بالطب، ولا أمتلك القدر الكافي من الشغف والموهبة حتى أمنحهم للأدب. بداخلي نار تحترق بثبات ولكن بفتور، وبدون شرارات. هذا هو السبب الذي يجعلني لا أكتب  خمسين أو ستين صفحة في الليلة الواحدة، أو أن أستغرق في عملي لدرجة حرماني من النوم. أنا لا أقترف حماقات ولكني أيضاً لا أبتكر أفكاراً  لامعة جديرة بالذكر ….أفتقر إلى الشغف الذي يحتاجه عملي، وكما لو أن ذلك لم يكن كافياً، فقد تشكّل بداخلي خلال العامين الماضيين، نفور تجاه رؤية أعمالي مطبوعة. أصبحت غير مكترث بمراجعات النقّاد والنقاشات الأدبية، ولا بكلام القيل والقال، أو بقضايا النجاح أو الفشل، ولا بالسعي لكسب رسوم أعلى نظير ما أكتبه. باختصار صرت كبير الحمقى . يبدو أن روحي قد دخلت حالة سبات….لا يكمن الأمر في أني منزعج، أو مرهق، أو مكتئب. ببساطة أشعر بأني إنسان غير مثير. على أحدهم أن يضع قنبلة تحت أقدامي”.

تذكرنا الكلمات أعلاه بالحالة النفسية لشخصية “نيقولاي ستيبانوفتش” في قصة تشيخوف ” حكاية مملة – من مذكرات رجل عجوز” التي صدرت في يونيو من نفس العام.  يبدو لنا أن  تشيخوف الشاب “الماكر”، قد إختار أن يحكي لنا عن أزمته النفسية بلسان حال استاذ جامعي في الثانية والستين، ومسائلته لمسيرة حياته وهو يحتضر ببطء !!

بالطبع لم يضع أي إمرئ “قنبلة” تحت أقدام تشيخوف، ولكنه بعد عام من تلك الرسالة، إختتم إحدى رسائله الى “سوفرين” بتعبير تشيخوفي ساخر: “إسمحوا لي بأن أقفز إلى الهوة السحيقة لأهشم رأسي”. فلقد قرر السفر الى جزيرة ساخالين، مستعمرة المساجين والمنفيين سيئة الصيت، في أقصي الشرق الروسي والمتاخمة لليابان، ساعياً على مايبدو لتفجير قنبلة بداخل نفسيته المضطربة!   

سجّل “تشيخوف” بقراره في السفر إلى ساخالين سابقة لم يتجرأ عليها أي أديب روسي على الإطلاق. فالذين ذهبوا قبله كان مجبرين، لا مخيرين، إذ كانوا منفيين لأسباب سياسية  بالدرجة الأساسية. كون قرار الرحلة ناجم عن خيار طوعي، هو ما يثير الحيرة والإعجاب في نفس الوقت.

تشير الباحثة  “كارول أبولونيو”  إلي أن دوافع  تشيخوف لرحلته إلى سخالين  قد تكون متعددة ومختلفة، إلا أنها لم تكن غامضة كما تمّ تصويرها في بعض الأحيان. لعبت حزمة من العوامل الشخصية (موجات الإكتئاب المتكررة)، والمهنية (شعوره بالإحباط من رتابة البيئة الثقافية وركودها )، والعائلية ( موت أخيه المفاجئ بالسل في منتصف 1889)، والرومانسية (علاقته العاطفية مع صديقة شقيقته)، أدواراً متفاوتة الأهمية، ويصعب تحديد ثقل أي منها في تشكيل قراره النهائي.

هل كان قراره بالسفر نابعاً من سعيه لإقتحام المجهول، أم هروباً من حالة الإضطراب النفسي التي كان يعاني منها، أو مزيج من الإثنين؟ وإذا كان يسعى للحرية والانعتاق من أسر الحياة الرتيبة والخواء الروحي الذي كان يعاني منه، فهل سيكون مبتغاه موجوداً في مكان تنعدم فيه كل أشكال الحرية: مستعمرة  للسجون في أقصى بقاع الأرض؟

لن نتمكن أبداً من الحصول على إجابة شافية، فالنتيجة ستكون مشابهة لما سنحصل عليه بعد إنهائنا لقراءة قصصه القصيرة ومسرحياته: سؤال مفتوح !

في سعيه لتوفير ضمانات “آمنة” تمكّنه من القيام برحلته، قام تشيخوف بخطوتين تعكسان ذكائه وفطنته: أولاً خاطب السلطات الرسمية مدعيا أنه سيقوم بمهمة لأغراض علمية في سخالين وحصل على موافقتها بعد أن وقّع تعهداً بأن يمتنع عن مقابلة السجناء السياسين. ثانياً قام بالتفاوض مع صديقه الناشر “سوفورين” والاتفاق معه على أن يرسل له مقالات عن رحلته في سيبريا لتنشر في مجلة “العصر الحديث”، في مقابل منحه بطاقة صحفي لأغراض التنقل وموارد مالية تكفيه للقيام بالرحلة. لاحقاً تحوّلت المقالات التسع التي أرسلها تشيخوف عن رحلته عبر سيبريا الى كتابه الشهير “في سيبريا”.

صورة خريطة سفر تشيخوف

لفهم سياق وظروف سفر تشيخوف إلى ساخالين في أواخر القرن التاسع عشر، علينا أن نلقي نظرة معاصرة في زمننا على ما يعنيه القيام بهذه الرحلة: المسافة من موسكو الى جزيرة ساخالين  تقارب تسعة آلاف كيلومتر  فيما لو سافرنا بالسيارة، السفر بالطائرة يستغرق خمس عشرة ساعة، وأكثر من إسبوع بالقطار. سيقطع المسافر ثمان مناطق زمنية خلال الرحلة.

“تشيخوف” قطع المسافة كلها بالقطار، والباخرة النهرية، وعربات الحصان، والقوارب، في رحلة استغرقت ما يقارب الثلاثة شهور حتى وصل الي جزيرة ساخالين في أقصي الشرق الروسي.

إنغا تسوبينكوفا” مديرة متحف كتاب تشيخوف في جزيرة ساخالين قامت في عام 2005 بمراجعة وتقصي مسار رحلته من موسكو إلى ساخالين يوماً بيوم، ونشرت نصّاً شيّقاً أسمته “مسار كاتب“، لاحقاً قامت الباحثة “كارول أبولونيو”  بتقسيم  رحلته في سيبريا إلى ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى:  إنطلق تشيخوف في 21 إبريل 1890 من موسكو بالقطار الى “يارسولاف“، وثم بالباخرة النهرية عبر نهر الفولغا ولاحقا نهر كاما إلى “بيرم“. من هناك إستقل القطار مرة أخرى بإتجاه “إيكاترنبيرغ” التي وصلها في 28 إبريل. واصل رحلته حتى وصل  “تيومين” في 3 مايو 1890. (13 يوم – تقريبا إسبوعين – حوالي 2143  كيلومتر ). انطباعاته في هذه المرحلة نجدها فقط عبر رسائله الى العائلة.

المرحلة الثانية: من ” تيومين” (وصلها بتاريخ 3 مايو )، بدأت رحلة تشيخوف الشاقة والخطرة على متن عربة تجرها الأحصنة باتجاه “تومسك“، حتى وصل الى “إركوتسك” على ضفاف بحيرة “بايكال” في 4 يونيو 1890.(33 يوم – تقريبا شهر – حوالي 3000 كيلومتر).

لخص تشيخوف معاناته في هذه المرحلة بايجاز تلغرافي، عبر رسالة شهيرة الى صديقه “بليشييف” (5 يونيو 1890):

” تنقسم كل تجاربي في سيبريا الى ثلاث مراحل:

 أولا من تيومين الي تومسك، برد قارس، ليلاً ونهاراً، أمطار ورياح باردة، صراع يائس بين الحياة والموت مع الأنهار الفائضة بالمياه. كانت الفيضانات تغمر المروج والطرق، بحيث أنني اضطررت إلى تبديل عربتي بالقارب مراراً وتكراراً. كنت أطفو وأجدف بالقارب مثل “الجندول” بالبندقية…عشت لحظات مخيفة،خاصة عندما تهب الرياح بشدة وتبدأ بخض القارب.

 ثانيا من تومسك الى كراسنويارسك ، دروب موحلة غير سالكة…كنت محاصراً بالطين كالذبابة العالقة في المربي الكثيف…لم أكن أسافر بل أخوض في الوحل بكل معني الكلمة الحرفي… كم شتمت وأطلقت اللعنات على كل ذلك…توقف عقلي عن التفكير تماما …لم أفعل غير الشتم،كنت منهكا بشدة، وكم كنت سعيدا للغاية عند وصولي الى كراسنويارسك.

 ثالثا،من كراسنويارسك إلى إركوتسك، حرارة ودخان من حرائق الغابات بالاضافة الى الغبار- غبار في الفم،في الأنف،حتى في جيوب ملابسي… عندما وصلنا الى إركوتسك وأغتسلت،كانت رغوة الصابون بنية اللون كما لو أني كنت أغسل حصانا.”

المرحلة الثالثة : بعد وصوله إركوتسك في 4 يونيو بقى فيها حتى  11 يونيو (تقريبا إسبوع)، ثم غادرها مستقلا عربات الحصان مواصلا رحلته حتى “سريتنسك” على نهر “شيلكا”،  ومن بعدها ركب الباخرة النهرية مبحرا في نهر “آمور” حتى “نيكولايفسك” على ضفاف المحيط الهادئ، التي وصلها في 5 يوليو 1890. بعدها بثلاثة أيام غادرها الى جزيرة ساخالين التي وصلها في فجر 11 يوليو 1890. (إجمالي رحلته من إركوتسك حتى نيكولايفسك حوالي 32 يوماً حوالي 4217  كيلومتر).

بعد وصوله الى ساخالين، أمضي تشيخوف ثلاثة شهور وثلاثة أيام، قام خلالها بمقابلة عشرة آلاف سجين موزعين على مناطق تمتد من شمال إلى جنوب الجزيرة. كانت النتيجة لاحقا هي كتابه “جزيرة ساخالين”، الذي يحتوي على ثلاثة وعشرين فصلا، تصف الفصول الثلاثة عشر الأولى منها مكان وجود المؤلف وملاحظاته على الجزيرة بترتيب زمني، أما  الفصول العشرة الأخيرة فعبارة عن تأملات ومناقشات حول قضايا متخصصة مثل: المجموعات العرقية الأخرى في الجزيرة، حياة المهاجرين القسريين، مشاكل المرأة، العمل وحياة المنفيين، هروب السجناء، المشاكل الطبية في الجزيرة، ومواضيع متفرقة أخرى.

بعد انتهاء إقامته في ساخالين، قرر تشيخوف العودة عن طريق البحر من ساخالين إلى اليابان، هونغ كونغ، سنغافورة، سيريلانكا، قناة السويس، حتي وصل إلى ميناء أوديسا علي البحر الأسود، ومنها بالقطار حتي موسكو التي وصلها مطلع ديسمبر 1890.

عندما أشرفت رحلته إلى ساخالين علي الانتهاء، وفي منتصف ليلة 11 سبتمبر 1890، من علي متن الباخرة المغادرة سواحل الجزيرة، كتب تشيخوف رسالة  الي “سوفرين “، طرح فيها تساؤله الذي سيشغل كل من سيأتي بعده:

شاهدتُ كل شئ، ويبقى السؤال ليس عما شاهدته، بل كيف رأيته.”