أتذكر ذلك اليوم تذكّراً حياً. مرت سنوات عديدة على ذلك اللقاء الذي جمعني به في بغداد، الصورة التي قفزت إلى ذهني ذلك المقهى الذي كنت في انتظاره له بصفته المندوب على ما أظن عن جبهة التحرير للجماعة المنفصلة عن الجبهة الشعبية، والذين حاولوا أن يبقوا تحت ذات الاسم مع ذكر (التصحيحية) أي الجبهة الشعبية التصحيحية، ولم يوفقوا في ذلك لأسباب عديدة منها الذاتية والموضوعية والإفتقار إلى الواقعية أيضاً.
لن أنسى اليوم الذي جاء فيه إلى ذلك اللقاء، رجل فارع الطول، لم يتعد عمره آنذاك الأربعين، ممتلئ الجسم، وسيم، عينان واسعتان، خلوق وودود، سلس في التعامل مع الآخرين، وكانت ملامحه تنمّ عن ثقة بالنفس ويُفصح عن قوة الشخصية بما يحمله من أفكار ويقين، كما إنه يتمتع بقدر هائل من الجمال في داخله، فأعجبت بشخصيته وبجسارته وفطنته بمرور الوقت الذي بدأت أعرفه فيه، فهو صريح وواضح مع نفسه ومع الآخرين على الرغم من كل شيء وعرفت فيما بعد بأنه أحد المنفيين منذ أمد بعيد.
كانت ليلة هادئة من ليالي أواخر فصل الصيف اللاهب، يزينها بدر في كبد السماء وكانت تتناهى إلى الأسماع في مؤخرة المقهى أصوات بعض من رواد المقهى الموجودين ومع ذلك لم يمنعني من الإنصات إليه بكل حواسي وبتلك السعادة والشوق بما قد يسديه إلينا من نصائح وتوجيهات قد تعيننا على مواصلة الدرب الذي سلكناه غير عابئين بنهاية المشوار بإرادتنا الحرّة، نـحلم بالجديد من الأفكار كلّ على طريقته الخاصة وبما قد نمتلكه من خيال جامح، فنحن لا نبغي إلا التحرر والإنعتاق من تلك الأفكار المتطرفة التي كانت سائدة في ذلك الزمان بين الطلبة فكان يعقوب خير مُعين وخير رفيق وخير موجّه.
عندما أتذكر تلك الأيام أصبحت بغداد من ذلك الحين كلمة عذبة ورقيقة وجميلة، فقد كنا نعيش في أروع مدينة في العالم، فبغداد وهي مركز العالم في ذلك الزمان تزخر بكل ألوان الطيف السياسي ومن اللاجئين الهاربين والمنفيين من بلدانهم وكان الدكتور يعقوب أحدهم بعد تخرجه من جامعة الصداقة في موسكو.
ثمة أمور ثلاث تلازم ذكرياتي عن هذا المكان الذي عشنا فيه أجمل أيامنا، هي طيبة الناس وقوّة شخصياتهم وكبرياؤهم فأنشدنا في كل بقعة من بقاع العراق حياة تستحق العيش ومعرفة تستحق المعرفة، وسلكنا كل أنواع الطُرق لأجل التوصل إلى مُبتغانا فكان لنا ما أردنا بفضل تلك التوجيهات من رفاقنا الأوائل في بغداد.
بدأت، عندما كنت أعيش تلك التجارب، أدوّن قائمة بعناوين الكتب التي تعينني على المضي قدمًا نحو الطريق الجديد فكان للدكتور يعقوب الجناحي مساهماته في بلوغ هذا الهدف فأبصرت وتبصرت الدرب بعد التيقن من أنني على صواب فاستبدّ بي احساس بنشوة البهجة الذي كنت أتوقّعه.
إن السبيل إلى إدراك الحقيقة عمل من الأعمال الشاقة والتخلي عن القناعات السابقة أمر يشق على نفس المرء أن يدركه بسهولة وبأن العادات القديمة نادراً ما تموت ومع ذلك تعبدت الدروب ومضى الزمان بأمان وأصبحت تلك الأفكار في خبر كان. هي إذن مسالك الحياة، فمما لاريب فيه أن بغداد جوهرة ومركز التجارة والصناعة والأدب والشعر ومما لا جدال فيه أنّ بغداد مدينة مدهشة رائعة الجمال، وقد كانت مدينة كبيرة مفعمة بالنشاط، فريدة تعكس قلوب سكّانها، خليط من الأديان والعادات واللغات التي تخترق أجواء سكونها مما أثر كل ذلك على كل من مرّ بها وعاش فيها وكان أبو لطيفة واحداً من هؤلاء الذين آنس إليها ففاض حيويّة ونشاطاً، فأصبح بيننا رفيقاً واسع التأثير، يحبّه ويحترمه الكثيرون لدماثة خلقه وحسن تعامله وتواضعه مع الناس وحبّه واحترامه لهم.
كان يعقوب المسالم الملتزم صاحب الأفكار الإنسانية يؤمن بأن لكل إنسان اختياراته وأفكاره الخاصة دون أن يؤثر ذلك على علاقاته بالأخرين ولذلك كانت له صداقات مع المختلفين معه وكان على دراية بأنه لا ينبغي للمرء أن يكون متزمتاً في أي شيء مما يسئ إلى أخلاقه وتصرفاته وقناعاته.
أحاول أن أتذكر سالف الأيام فلا أجد الاّ حلاوة وطراوة تلك النقاشات التي تمتد حتى الصباح بين الطلبة حول أمور الحياة والمتغيرات التي تحدث في بلدنا وفي العالم وإنعكاس ذلك على تفكيرنا والوجهة التي نـحن بصدد الذهاب إليها بآمال عِريضة وأجد بيت المناضل عبد الله الراشد البنعلي (أبوغسان) متسعاً لاحتواءنا كمجموعة صالحة للتأطير والتنظيم.
إنها مشاعر نحسّ بها الآن، قويّة ومحفّزة، فيّاضة، مفعمة وكاملة ومتمرّدة أو هكذا يتراءى لي بعد أن عقدنا العزم على اتخاذ قرارات صعبة وحاسمة وعسيرة. يا لها من أيام وليالٍ لا تُنسى! لم أزل تحت تأثيرها حتى الآن وكانت النهاية هي أكثر الأمور إثارة للذعر وهي طرد مجموعة كبيرة من الطلبة بذرائع متعددة من العراق على وقع تلك الأحداث وغيرها من أمور غامضة فأصبحت بغداد أرضاً خاوية، حزينة وباردة.
وعلى الرغم من كل ذلك أدى الرفاق في بغداد دوراً محورياً في النقلة التي حصلت لتلك المجموعة من الطلبة وأخذوا بيدهم بغية وصولهم إلى تلك القناعات ووضعوهم على السكة السليمة عن طريق التوجيهات المهمة للبنعلي والجناحي فأصبح الكثير منهم مناضلين في مختلف المجالات بفعل تلك التوجيهات والمساعدات على مختلف الصعد ومنها مواصلة الدراسة في الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية الأخرى آنذاك.
ويبدو أنّ للجوّ السياسي في بغداد أيضاً أكبر الأثر في تلك التحولات، بل هو المحور الأساسي الذي تدور في فلكه تلك التفاعلات الحاصلة إبان علنية نشاط الحزب الشيوعي العراقي وجريدة “طريق الشعب” الناطقة باسمه، وما تقدّمه من مادة دسمة في مختلف الجوانب السياسية والثقافية، مما أوجد قاعدة صلبة لسهولة التحول إلى أفكار جديدة عمل عليها الرفاق بصدق وتفاني لتأطير تلك المجموعة المختلفة مع تنظيمها الأصل، ففي خضم هذه الأجواء في بغداد على وجه الخصوص بدأت تلك الإرهاصات لولادة الأفكار الاشتراكية العلمية وتبنيها من قبل تلك المجموعة الآتية من رحم التنظيمات القومية والماوية واستطاع المخططون لتلك النقلة أن يستغلوها بذكاء بفضل قيادة التحرير الموجودة في بغداد آنذاك.
إذا كانت ثمة سلسلة من الحوادث، فإن حادثة التعرف على إناس رائعين كالمناضلين عبد الله البنعلي ويعقوب الجناحي وغيرهما من الرفاق هي أروع وأجمل ما حدث لي أثناء الدراسة في بغداد، فقد كانوا كالمرايا يعكس أحدهم صورة الآخر، تركوا مذاقاً خاصاً في التعامل الرفاقي الراقي مع الآخرين، وكانت لهم أفكار عملية في الحفاظ على ثبات تلك المجموعة بعد أن مهدوا لها الطريق تمهيداً وعبدوها تعبيداً للقيام بالدور النضالي اللاحق.
ظلّ وجه يعقوب المتعب يومض في مخيلتي برهة وجيزة، وأنا أتذكره قبيل رحيله عن دنيانا عندما كنا نلتقي به في استراحة ما بعد رجوعنا من المحاكم، وبقي وهج ذكراه العطرة حاضراً، وكذلك اللقاء في بغداد شاخصاً لم يُمح من ذاكرتي حتى يومنا هذا، هو الذي كان من ذلك النمط النادر من الرجال الذين بقوا على مبادئهم وذاقوا عذاب الغربة لأكثر من أربعين عاماً.