ارتقت مومس انجليزية تدعى دوريس دولوفينيْ قمة المجتمع الإنجليزي من خلال بيع الجنس للطبقة الفخمة، حتى أنها “انزلقت” إلى فراش رئيس الوزراء وينستون تشرشل آنذاك.
تقول الحكاية التي كُشِف عنها الستار متأخراً جداً أن دوريس ابنة طبقة عاملة من جنوب لندن، حلمت ككل المراهقات أن تصبح سيدة مجتمع مرموقة وفق قاعدة اتبعتها بحذافيرها تقول: “فراش المرأة الإنجليزية مملكتها” ويبدو أن هذه القاعدة عامّة بالنسبة لنساء العالم كله، والأمر يختلف بينهن حسب خياراتهن في الحياة. زحفت دوريس زحفا نحو القمّة عبر الأبواب الخلفية والممرّات السرية المؤدية لقصور الأثرياء والطبقة الحاكمة، حتى أصبحت الصندوق الأسود لأسرار تشرشرل العظيم.
وقد صدرت بهذا الشأن رواية لستيفاني دي هورتس تحمل عنوان “دوريس، سرُّ تشرشل” تروي فيها حياة بطلة ما بين الحربين، ثلاثينيات القرن الماضي، وتفاصيل مذهلة عن الطبقة السياسية الإنجليزية وتقاطعها مع الأدب ونساء قرّرن أخذ دور البطولة بأقدم أداة تملكها المرأة الجسد الممشوق والجمال و “الجنس”.
السيدة الفاتنة التي عرفت كيف تتوغل بين رجال هذه الطبقة حظيت بالثروة والاهتمام وقد خلّدها تشرشل برسمها، لكنّها لم تستثمر لمستقبل أفضل مع تقدمها في العمر، فماتت منسية.
اعتبر البعض أن هذا النوع من الأدب مبتذل، وبطلته رغم أنها حقيقية وتؤرّخ لجزء مهم من تاريخ رجال حكموا العالم إلاّ أنها ليست أكثر من فتاة فاسدة. تنتهي العشيقة في دهاليز مظلمة إن لم تجدّد أسلحتها الفتّاكة، لقد كان الحب دائما لذيذا أحيانا وشائكا أخرى، وكانت له نهاية لا محالة إن لم يتأثث بالألفة والمشاعر الإنسانية التي تعمل بعد أن تخبو تأثيرات الهرمونات الفاجرة.
في الماضي كانت النّساء يُبقين على رسائل عشّاقهن كزاد لأيام القحط القادمة، فيما كان الرجال ينتقلون بين امرأة وأخرى ويعاشرون الأرامل والمطلّقات والمومسات ويصنفونهن تصنيفا واحدا، كل شيء ينتهي عند المتعة القصيرة التي لا تمتدُّ إلى المسؤوليات الثقيلة، كالزواج وإنجاب الأولاد والتكفُّل بالعشيقة ماديا.
نادراً ما يأتي الموت مفاجئا فيكشف بعض تلك العلاقات السرية التي يعيشها الرّجال إمّا حفاظا على مراكزهم أو عائلاتهم أو سمعتهم، فالعشيقة كائن يعيش في الظلّ ويموت في الظلّ. ولعلّ السؤال المُلِحّ هو: “لماذا لا يحتفظ الرجال برسائل حبيبتهم؟ فيما النّساء في الغالب يحتفظن برسائل عشاقهن؟” هل هي نرجسية المرأة لإثبات أمر ما مرتبط بكرامتها في ذلك الحب العابر؟ أم أنه راجع لطبيعتها ورغبتها في الاستقرار وإيقاف الزمن عند اللحظات الجميلة الجياشة بالعواطف الملتهبة والرّغبة في امتلاك الآخر؟
كتبت جورج ساند الكثير من الرسائل لألفرد دي موسيه، وقد نُشِرت في كتاب “رسائل حياة بأكملها”. هذه المرأة التي عاشت باسم رجل، وعشقت رجالا حتى الثمالة لم تجد رجلا مخلصا لحبها، كانت قد عرفت بمغامرات الليل التي كان يخوضها موسيه، إلى أن مرض وأصيب بحمى، فاتصلت بطبيب إسمه بيترو باجيلو ليعالجه ويعرف نوع مرضه، وحين عرفت لم تتردّد في إقامة علاقة مع الطبيب!
هل هذا انتقام نسائي لامرأة حرة؟ ربما، فقد تركت له رسالة تشرح له فيها أن قلب المرأة حساس، وليس لعبة للتسلية، تقول: “لا يا طفلي الحبيب، هذه الحروف الثلاثة ليست المصافحة الأخبرة للحبيبة التي تتركك، إنه اختضان الأخب التي ستبقى معك، فاحتفظ بي في ركن سري صغير في قلبك، وانزل هناك في أيام حزنك لتجد العزاء والتشجيع. لذا حبيبي ألفرد أحبَّ امرأة شابة جميلة لن تحب بعدك، ولن تتألّم، إعتنِ بها ولا تجعلها تعاني، قلب المرأة شيء مرهف الإحساس…أعتقد أنك أحببتني بصعوبة ولذلك سهل عليك الهجران”.
تحاول المرأة العاشقة أن تملأ الفراغ بأشياء من بقايا الحبيب، ولدوافع كثيرة قد تبني متحفا لأشيائه، وتمثالا له في حديقة، وتطلق جائزة بإسمه، كما فعلت يوكو أونو لينون زوجة جون لينون، والتي عاشت معه قصّة حب مجنونة لمدة إثنين وعشرين عاما، مع أنها عاشت تجارب سابقة منها زواجها من منتج الأفلام الأمريكي أنتوني كوكس الذي حوّل حياتها إلى جحيم حتى حاولت الإنتحار.
اختلف الوضع مع جون لينون، إذ استمرت علاقتهما وأنجبا طفلا وتفرّغا له معا، لكن متطرّفا يهوديا أطلق عليه النار وأرداه قتيلا أمامها في نيويورك، في الثامن من ديسمبر 1980. توصف يوكو أونو بأشهر فنّانة غير معروفة، ثم كأنّها فاجأت العالم حين كتبت رسالة شوق لحبيبها الفقيد: “أفتقدك يا جون. بعد سبع وعشرين سنة ما زلت أرغب في العودة بالزّمن إلى صيف 1980. متذكرة كل ما عشناه معا، نتشارك قهوة الصباح، نمشي معًا في الحديقة في يوم جميل، وأنا أنظر إلى يدك الممدودة تجاهي، أمسكها فأطمئن بأن لا أقلق حيال أي شيء لأنّ حياتنا كانت جميلة” ثم تكمل “في تلك الليلة من الثامن من ديسمبر 1980 عندما لمست جانب شريرنا حيث كنت تنام أدركت أنه لا يزال دافئا. تطاردني تلك اللحظة لمدة سبع وعشرين سنة ولن تتركني أبدا”.
خيط الكتابة للحبيب بالنسبة للمرأة هو حبل سُرّي آخر يمتدُّ من قلبها إلى الرجل الذي تحب، تعتقد عميقا أنّه يغذيها ويغذيه، فتمدّه بالكلمات التي تأبى أن تموت. إنّه حال كونسويلو التشكيلية السلفادورية التي التقت أنطوان دي سانت أكزوبيري العام 1930 في باريس فوقعت في حبه من أول نظرة، وتزوجا بعد سنة، ولكنّ عمله كان يبعده عنها لفترات طويلة أحيانا فكانت تكتب له يوميا، ومتى حطّت طائرته يجد رسائلها في انتظاره، إلى أن تحطّمت طائرته في صيف 1944 في البحر، ولم يعثر عليه.
الغريب أن كونسويلو لم تتوقف عن الكتابة له رسائل من أروع ما كُتِب في الحب: “أنا وحدي الآن تونيو، لم تعد. لكنّك في داخلي إلى الأبد، يا طفلي وزوجي، أحملك في داخلي مثل الأمير الصغير، ولا أحد يمكنه المساس بك أو بي” وفي رسالة أخرى تكتب له: “أتحدّث وأتحدّث، لأنك كنت تحب أن تسمعني، تقول لي” أحب قصصك أيتها الصغيرة كونسويلو، وأحيانا حين أضيع بين الكواكب والنجوم ولا أدرك هل تلك نجمة قطبية أم إشارة من إشارات الأرض الضوئية أقول أن كونسويلو تناديني، أتوجه إليك وإلى حيث قصصك ترشدني”.
في الأدب الغربي نجد الكثير من هذه النماذج الجميلة حيث رسائل المرأة لمن عشقت موجودة ومنشورة ومتوفرة ناقلة تجربة إنسانية عميقة للأجيال الجديدة التي وإن تغيّرت أنماط حياتها وتقدّمت تكنولوجيا تبقى تركيبتها النفسية والعاطفية نفسها. في الأدب العربي تبقى غادة السّمّان الكاتبة الوحيدة التي كسرت جدران “الهيبة الرجالية” وأخرجتها من فضاء ثرثرات المقاهي والتباهي بعدد العشيقات والحبيبات، بين الفينة والأخرى تخرج غادة رسائل كتبت لها من أدباء وشعراء وتنشرها، وهي تناشد كل من يحتفظ برسائلها أن يوافيها بها لتنشرها دون خوف أو تحفظ، ولكن رسائلها المختفية وفق اعتقادي أتلفها الطرف الآخر سواء كان غسان كنفاني أو أنسي الحاج أو نزار قباني، مع احترامي لهؤلاء الكتاب ومكانتهم الكبيرة على سلّم الأدب العربي المعاصر، فإنهم رجال من الطينة العربية التي تعتبر رسالة حب من امرأة “شبهة” أو “دليل إدانة” لرجولتهم. فقد قرأت على صفحة غادة السمان الإعلان عن رغبتها في نشر رسائل نزار قباني لها قريبا مع رسائلها له، لكن هذه الأخيرة غير متوفرة عند ابنة الشاعر الراحل، لكن التعليقات الخبيثة عادت لتتّهم غادة أن ما تقوله مجرّد ادعاء، فهي حتما لا تريد نشر رسائلها.
الكاتبة العربية الوحيدة الأكثر شجاعة هي غادة السمّان، لأنّها لم تلعب دور القديسة أمام الإعلام، فقد تحدثت دائما عن تجاربها في الحياة السيء منها والجيد دون خجل، أمّا موضوع الرّسائل فيبدو تحليل المتتبعين للأمر غريبا نوعا، هل كان على غادة أن تكتب نسختين من كل رسالة ترسلها، وتحتفظ بواحدة كما تفعل الإدارات الرسمية؟ ما المطلوب منها بالضبط؟
أطرح السؤال وأنا متأكدة أن بعض الأدباء والشعراء يرتجفون خوفا من أن تصاب كاتبات أخريات بعدوى غادة السمان وينشرن ما في جعبتهن من رسائل ليخرجن من السرية المقيتة إلى العلن متحرّرات من النفاق العفن لمجتمعاتنا.