جلال الدين الرومي كما رأته أليف شافكَ

0
132

على إثر قراءة أكثر من كتاب عن جلال الدين الرومي استقرّ بي المقام في نهاية المطاف للكتابة عن رواية “قواعد العشق الأربعون” لأليف شافاك، الروائية التركية التي بلغت شهرتها الآفاق لسحرّ ما تكتب، ملامسةً الواقع التركي ومستخدمة مادة التاريخ لخدمة الأغراض الروائية، فمن الطبيعي إذن أن يثمر هذا الشغف عملاً من أعمال الإبداع يستخدم التاريخ أداة من أدواته لتجسدّه واقعاً حياً في تلك الشخوص، ولن تجد الفكاك من تلك الجاذبية التي وصلتك بها الرواية فتشعر بأنك تعيش تلك الأحداث رغم بعد المسافات الزمنية.

كان القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) الذي عاش فيه جلال الدين الرومي أو (البلخي)، نسبة إلى بلدته بلخ في أفغانستان، كما يسميه عناية الله إبلاغ الأفغاني في كتابه (جلال الدين الرومي بين الصوفية وعُلماء الكلام)، حافلًا بالأحداث: ظهور المغول بقيادة جنكيزخان وهولاكو وغزوهم للبلدان، ما أدى لهجرة عائلة الرومي إلى قونيه بتركيا هرباً من بطش المغول لبلاده أفغانستان.

وكما يذكر الكاتب إسحاق الشيخ في روايته “في حضرة جلال الدين الرومي” عن تلك المدينة “قونية نزيف مدينة عشق يتسامى شمسًا جللًا بين شمس الدين التبريزي ومولانا جلال الدين الرومي.. وهي مدينة تغطّ في غسق العشق بين المحبين والمُحبات العاشقين والعاشقات، قونية بهجة أرض فوّاحة ملونّة بالورود الفواحة التي تتراقص زهواً في جمال طبيعتها ..الخ”، قونيه تلك البلدة التي عكف فيها  جلال الدين الرومي على تأليف أهم كتاب له وهو المثنوي ،هذا الأثر الذي اشتهر في الآفاق وهو أقرب بالنظم المزدوج والذي يضم ما يقرب من خمسمائة وعشرين ألف بيت، فقد كان شاعراً ويميل إلى البحث في القضايا الفقهية والكلامية ونظم الحلقات الدراسية، وقال الكثير من الباحثين بأن الرومي “كان عالماً كبيراً، متعمقاً، ومفكراً عبقرياً خدم الإنسانية جمعاء بآثاره الخالدة التي لا تزال في قوّتها”.

الصوفي العظيم والصيدلانيّ فريد الدين العطار قال عنه: “سوف يفتح هذا الغلام بوّابة في قلب الحبّ، ويُلقي بشعلة في قلوب كلّ عشّاق الصوفية”، أما الفيلسوف والأديب الصوفي اللامع محيي الدين بن عربي فكان مندهشاً عندما رأى الرومي الشاب يسير وراء أبيه يوماً، وقال: “العزة لله ! محيط يسير خلف بحيرة”.

فلا عجب، إذن، أن تكتب عنه أليف شافاك تلك الرواية الشائقة (قواعدُ العـِشق الأربعون) والتي تتناول فيها حياته بإسلوب قصصي بديع وبارع وسلس، حيث بلغ عددٍ صفحاتها أكثر من خمسمائة صفحة، قدّمتها بتقنية عالية، وأفادتها دراستها للصوفية دراسة مستفيضة وهي في العشرين من عمرها، كما ورد في مقدّمة المترجم.

زاوجت شافاك في اختيار شخوص روايتها بين الماضي والحاضر، ورسمت صورة جمالية حين بدأت بـ “إيلاّ”، وهي البطلة الرئيسية التي جرفتها الحياة وحوّلتها إلى ربة بيت، لها ثلاثة أطفال ومسؤوليات بيتية لا أول لها ولا آخر، الا إنها لم تتخلى عن ولعها بالكتب كما إنها اكتشفت بأنها تعيش زواجاً فاشلاً  بسبب خيانات زوجها ديڤيد لها، فتعيش قصة حبّ بعد أن استبد بها الفضول لمعرفة كاتب المخطوطة (تجذيف عذب) وهي رواية تاريخية صوفيّة تدور أحداثها عن  العلاقة المدهشة التي ربطت بين الروميّ في العام 1244، “وهو أفضل الشعراء وأكثر الزعماء الروحيين مدعاة إلى الاحترام في تاريخ الإسلام، وبين شمس التبريزيّ، ذلك الدرويش المغمور الذي امتلأت حياته فضائح ومفاجآت”، والتي كانت تعكف على قراءتها وكان كاتب تلك الرواية والذي أحبته هو عين. زد. زاهارا، والذي أصبح اسمه فيما بعد عزيز زاهارا عندما أسلم ومشى في دروب التصوّف. لم تعرف “إيلاّ” بأن هذا الكتاب الذي كانت تقرأه سيكون الكتاب الذي سيغير حياتها إلى الأبد، فلقد كان كتاباً لا يشبه غيره من الكتب الأخرى التي قرأتها.

من هذا المنطلق يبدأ تسلسل الأحداث لتصل الروائية إلى مبتغاها وهو حياة جلال الدين الرومي وعلاقته بشمس الدين التبريزي. تلك العلاقة التي تحوّلت إلى صداقة قويّة وفريدة جعلت الصوفيين في القرون التالية يشبهونها كما تقول شافاق “بوحدة محيطين”. وبفضل تلك الصداقة تحوّل الرومي من رجل دين اعتياديّ إلى “صوفيّ ملتزم وشاعر مشبوب العاطفة، مدافع عن الحب ومبتكر رقصة الدراويش الدائرية المثيرة”.

وجد الرومي في شمس الدين التبريزي ما يعتبر مثالاً للزهد وبذلك انصرف كليّاً إلى الحياة الروحية على الرغم من أن التبريزي “كان شبه أمّي يتسم بالحماس الروحي العظيم في حديثه، وكان لكلامه أثر عظيم في نفوس من يستمعون إليه، وكان كثير التجوال”، كما ورد في كتاب عناية الله الأفغاني سالف الذكر.

ومع ذلك كان شمس الدين التبريزي يتعلم في غضون أيام على خلاف غيره من الدراويش بطيئي التعلم، إلى جانب أنّه يمتلك حبّ فضول مدهش بخصوص كلّ ما هو جديد وغير مألوف، فضلًا عن أنه كان دقيق الملاحظة في الطبيعة فهو لا يخاف أحداً ولا يطيع أحداً. انبرى شمس الدين التبريزي إلى إيصال أفكاره في التصوف إلى الرومي بطرق عديدة وعملية ومبتكرة من الحياة الواقعية وأوصله إلى ما يريد من خلال تلك الوسائل التي ابتدعها وأبدع فيها في الخلوات بينهما التي كانت تستمر ساعات طوال بل أياماً بلياليها، فأصبح شمس الدين التبريزي بعد تلك الخلوات الرفيق الروحي للرومي.

تطوف بنا الكاتبة إلى الحياة الخاصة لكلا الصديقين، وكيف أن حياة الرومي قد تغيّرت كلياً حتى في علاقته مع زوجته كيرا وأولاده، سلطان ولد وعلاء الدين بعد أن ظل في خلوته ملازماً للتبريزي، لا يستطيع فراقه فصار لايرى أحدًا، وحتى الخطابة التي كان بارعاً فيها هجرها، مما سبّب له الكثير من المشاكل مع مريديه ومُحبيه، فلم تعد حياته كما كانت عليه في ماضي الزمان إلى درجة أنّ الناس أخذت تتساءل عن تلك العلاقة، كيف يمكن لعالم محترم أن يجعل نفسه ألعوبّة بين يدي مهرطق؟

أنماطاً من البشر عرّف شمس جلال الدين بهم، حسن الشحّاد والغانية زهرة الصحراء وسليمان السكير وهم أشخاص عاديون أراد بهم أن يسلكوا طريق الصلاح، لا من خلال المحاضرات التي يلقيها الرومي في المساجد، وإنما للتعرف بالمشاكل الواقعية في الحياة، ليخرجه من برجه العاجيّ إلى الحياة البسيطة للناس ليكون قناة بينه وبين المظلومين في المجتمع.

فبعد أن ظهر شمس في حياة الرومي إتسعت دائرة الحب لديه لتشمل أكثر المنبوذين في المجتمع كالمومسات والسكارى والشحاذين وحثالة المجتمع إضافة إلى جميع المذاهب والأديان، فالحب والتسامح هو أقرب طريق يوصل السالك إلى ما يتمناه، فالتصوف تيقن يوجه النفس الصادقة إلى بذل الجهد للوصول إلى السعادة والكمال من خلال الحبّ.

 وللرومي مقولة جميلة عن الحبّ “إننا غير مضطرين إلى مطاردة الحبّ خارج نفوسنا. كل ما ينبغي لنا عمله هو إزالة الحواجز الداخلية التي تُبعدنا عن الحبّ”، وللشيخ الأكبر محي الدين بن عربي والذي يُعد من أهم رجال التصوف قول في الحبّ والتسامح والأخوّة بديع جداً إذ يقول:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي             إذا لم يكن ديني إلى دينه دان

وقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة             فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف                  وألواح توراة ومصحف قرآن

أدينُ بدين الحُبّ أنّي توجهت                ركائبه فالحُبّ ديني وإيماني

وتختتم شافاك روايتها بهذه الجملة المعّبرة “ليس للحبّ أسماء ولا تعريفات، هو ما هو، شفاف وبسيط. هو ماء الحياة، والعاشق روح النار! والكون يصبح كوناً مغايراً عندما تحبّ النارُ الماء”، ومع كل ذلك لا يعفي المتصوفة من إنهم متهمون بالخنوع والإتكالية والخضوع المبالغ فيه والتسليم بواقع الظلم الاجتماعي والسياسي.