حياة كاملة بكل تفاصيلها
لا شكّ أنّ قارئي أصبح يعرف مدى عشقي لرسائل الأدباء، لكنّه حتما لا يعرف أني اكتشفت قيمة كل كاتب طُبِعت رسائله بشكل أفضل، بل أحيانا أقرأ الرّسائل قبل البحث عن نتاجه الأدبي، مثل بروست مثلا الذي لم يغريني ككاتب فرنسي كتب كتابا واحدا ضخما لا يشجّع على القراءة رغم شهرته، خاصّة لمن لديه انشغالات يومية كالتي تطوّقني وتحرمني من ممارسة هوايتي الأولى “القراءة”.
وصلتني الطبعة الثانية من “رسائل مارسيل بروست” ترجمة ربيع صالح، إصدار دار الرافدين منذ فترة قصيرة، وقد كان رفيقي لعدة ليالي حتى أنهيته (528 صفحة، مع ملحق صور بالأبيض والأسود زادت من جمالية الكتاب).
وقد أشار النّاشر في مقدمته أن بروست بدأ حياته كاتبا للمقالات ثم مترجما، وحين عكف على كتابة روايته الضخمة “الزمن الضائع” لم ترحب دور النّشر التي راسلها بطبعها بسبب طولها، وهذا يفسّر صعوبة تصنيف بروست وفق أدبه، فقد كان مدرسة فريدة من نوعها. ويخبرنا النّاشر بذلك على لسان الكاتب نفسه، حتى أنّه سجّل اعترافا الكاتب بأن أدبه يشبه “ثمرة الملفوف في تداخل أحداثها وتعقيد بنائها”.
أمّا السّرُّ في تدفق هذه الرواية كالسيل على بروست فقد كان سرا صغيرا ولذيذا حين قضم قطعة مادلين مغموسة في الشاي، مرّ شريط حياته أمامه بكلّ تفاصيله، ولم يعد بإمكانه إيقافه. غمره السيل واستسلم له حتى موته، ولم يمنحه فرصة لتنقيح آخر ثلاثة أجزاء من روايته.
من خلال الرسائل سنفهم أنّ نفَس الكاتب طويل حتى في كتابة الرّسائل، وأنّه سبق زمنه في طرح بعض الأفكار الجريئة. يقول في إحدى رسائله إلى صديقه روبرت دريفوس في أوت/آب 1888: ” كتبتُ مواضيع ليست عادية على الإطلاق، وكانت النتيجة أن دزينة من المعتوهين كتبوا بأسلوب غاية في الإسفاف. اعتبرني كوشيفال مؤثّرا ولكن سلبا لا إيجابا، فقد سبّبتُ الاضطراب في الفصل كلِّه، بل إنّ العديد اعتبروني مدّعٍ وكذابَ”.
أيضا نكتشف شخصا حسّاسا جدا، يهمُّه من يحبه ومن يكرهه، لئلاّ يدلق بعواطفه على قلوب لا تستحق مشاعره النّقية والصّادقة.
عزلة بروست لم يكن هذا سببها الوحيد، بل لأنّه أصيب بمرض الربو باكرا، وكان ذلك يتعبه خاصّة في فصل الشتاء الطويل. ثم إنّ ارتباطه بوالديه وخاصة والدته كان يجعله يلحقهما حيث يكونان، وبعد وفاتهما لم يعد لديه محفزٌ جيد للحياة والاختلاط بالناس.
في إحدى رسائله الموجهة للكونتيسة دي نويلز في السابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1905 يقول: “لقد توفيت لكنها أخذت حياتي ونفسي معها كما فعل والدي… لم ترغب في البقاء حية بعده إلا من أجلنا، بيد أنها لم تتمكن من ذلك”. لم تغير والدته دينها فقد ظلّت على دينتها، وهذا يفسّر تسامح بروست مع كل الديانات، وحين توفيت والدته دفنت وفق الطقوس اليهودية، ودعا أصدقاءه المقربين إلى تقديم التعازي في البيت وليس في الكنيسة كما حدث مع والده.
عانى كاتبنا بعد وفاة أمه وانتابه الضعف ونوبات المرض، ومع هذا حافظ على رقي أخلاقه فكتب رسائل شكر لمن أرسل أكاليل للتعزية. ويبدو في كل رسالة حريصا على وصف حالته وأهمية من يكتب لهم.
لقد كانت رسائله دقيقة بحيث أحيت كل الأشباح الذين غادروا دون ترك منجز ما، فقد كان وجودهم في حياة بروست كافيا ليخلّدهم إلى الأبد.
وفي الكتاب تعريف مقتضب لكل شخص راسله إن توفّر، مثل السيدة كاتوس التي كانت صديقة لوالدته، وكانت تمارس التصميم والزّخرفة الدّاخليّة إلى جانب الاتّجار بالتحف والأنتيكات. إذ يبو أنها راسلته طالبة نصيحة ليختار لها كتابا تقرأه. فيردّ عليها برسالة مفصلة عن الكاتبة بارترايد دو لو (720 – 783) مقدِّما ما يكفي لتشجيعها على قراءتها، ومع هذا يذيّل رسالته باعتذار رقيق لأنه متعب وغير قادر على كتابة المزيد عنها.
نشعر كلّما قرأنا إسما جديدا من أسماء أصدقاء الكاتب بالزحام الذي حظي به من معارف، وأن عزلته في الحقيقة لم تكن كاملة بالمعنى الحقيقي، فقد كانوا حاضرين برسائلهم، وكان دائم التّواصل معهم. نستنتج ذلك خاصّة في الجزء الثاني من الكتاب (جزء بدون عنوان) والذي خُصِّص للسنوات العشر بين 1899 و1909 حيث عكف على ترجمة رسكن، ونشر ما كتبه من ترجمات ومقالات في جريدة الفيغارو. كما بدأ بكتابة روايته. فقد راسله وراسل أكثر من خمسة عشر شخصا من بينهم أمه، وضم هذا الجزء حوالي مئة صفحة.
لقد كان عليلا هذا واضح، وحزينا، ومنكسرا، مُفتقِدا الحب الذي وجده في حضن والديه مثل طفل، وحضن رجل أحبّه وظلّ خائفا ومتسترا عليه، ولكن في الوقت نفسه كان محاطا باهتمام من عرفهم وبنى معهم علاقات متينة، وكان يسعده تلقي الرسائل بشكل دائم منهم، بل حتى أولئك الذين اختلف معهم في بعض الأفكار أو حدث بينه وبينهم سوء فهم ما، فقد عرف كيف يعتذر منهم، ويبقي مسافة الاحترام بينهم إلى آخر أيام حياته، مثلما ورد في رسالته لكاستون كاليمارالذي وبّخه بسبب طريقته في المراجعة والتنقيح قائلا: “أرجو المعذرة، على الشّخص أن لا يبادر إلى توبيخ شخص آخر دون شرح الأسباب….لقد حاولت دوما أن أحافظ على الصّداقة التي بيننا…”.
أي نعم لم يجد الدّعم الكافي لنشر روايته الضخمة، لكنّه اعتمد على نفسه، متّكئا على ثقته المفرطة بقلمه وأفكاره وأسلوبه فنشر العمل على نفقته الخاصّة. في الجزء الثالث من الكتاب والمعنون بطريق سوان والحرب (1909 – 1918).
فترة جد حسّاسة سبقت الحرب العالمية الأولى، وفقدان الكثير من الأصدقاء، غير الحرب التي شوّشت السكينة التي كان يصبو إليها. فقد فكّر في الزواج أول مرة في هذه الفترة العصيبة، فطلب النّصيحة من صديقه جورج دي لوريس: “…هل تعتقد أني سأرتكب جرما لو أني طلبت من فتاة رائعة أن تشاركني حياتي البشعة؟” وكان يقصد إبنة السيدة كيستون دي كالافيه، التي كتب لها مستعطفا ليغير زوجها موقفه منه. فبعض أفكاره كانت مرفوضة في زمنه، وهذا ما جعل البعض لا يحبونه.
الجزء الثالث والأخير من الكتاب والمعنون بالشهرة والموت (1918 – 1922) ويكشف عن الأربع سنوات الأخيرة في حياة بروست وهي الأهم على الإطلاق، خاصة حين نال جائزة غونكور الشهيرة التي أعادت له الاعتبار وغيّرت من مجرى حياته كلها. فقد حطّت الحرب أوزارها، وصار يسرّع من وتيرة اشتغاله على روايته رغم مرضه كونه كان يشعر دائما بقرب الموت منه، أو لنقل أنه ترافق مع الموت مثل رفيق له، لهذا من عجائب ما حدث له أن الموت منحه متسعا من العمر لينهي روايته قبل أن يأخذه في رحلته الأبدية إلى ملكوت العالم الآخر.
كتب بروست الكثير عن قراءاته، وقرائه الذين لكثرتهم انتشروا في كامل أوروبا وبريطانيا وأمريكا وحتى الصين واليابان. منحنا خريطة واسعة وواضحة عن أدباء تأثّر بهم، ونقّاد صنعوا المشهد الأدبي في فرنسا آنذاك. كتب عن رؤيته للحياته، ورؤيته لنفسه بكل تواضع أحيانا وبثقة كبيرة أحيانا أخرى. كما ذكر مرضه اللعين الذي يوصله عدة مرات إلى بوّابة الموت ثم يمنحه فرصا لتجديد عقده مع الحياة.
رسائل بروست ليست رسائل شخصية فقط، بل شهادة على عصر كامل، عن طبيعة العلاقات بين الأدباء والنقاد والطبقة الارسطوقراطية والناشرين والفنانين والخياطين ومصممي الأزياء والمزارعين ومصممي الجنائن وغيرهم من أنواع البشر الذين تعامل معهم واستشارهم لإثراء روايته العظيمة “الزمن الضائع”.
هذه رؤيتي المقتضبة للكتاب ولعلي إن قرأته مرة ثانية في فترة تركيز وهدوء لاكتشفت فيه أشياء جديدة.
وهذه متعة التلصص على رسائل الأدباء لأن لا شاهد حقيقي على تاريخ البشرية غير الأدب ورسائل الأدباء.