- من هم البرتغاليون؟
البرتغال، تلك المملكة الصغيرة الواقعة على الحدود البحرية الجنوبية الغربية لقارة أوروبا الغربية التي كانت تشمل منطقة محاذية لساحل المحيط الأطلسي حيث تُطل عليها البرتغال اليوم، وتقع بين نهري دورو (Douro) شمالًا، وتيجو (Tejo) جنوبًا. ويعود تأسيها في الأصل لـ (فرديناند الأول) ملك قشتاله وليون، في القرن الحادي عشر للميلاد. عندما نجح هذا الملك في إعادة السيطرة العسكرية على بعض أراضي إقليم “لويس تانيا” الذي كان بيد المسلمين. وكان يضم مناطق مهمة جدًا من أراضي شبه جزيرة (إيبيريا). وأطلق الملك على هذه المناطق تسمية “كونتيه البرتغال”([1]) واسبغ عليها طابعً سياسياً ومكانة استقلالية خاصة مع الحرص على تبعيتها لمملكة قشتالة وليون.
ثم تمكن (هنري البورجوني) أو (البورجاندي) وهو أحد الفرسان الصليبيين الذي قدم لشبه الجزيرة الإيبيرية من منطقة “الغال” أو “الـﮔال” في جنوب فرنسا لإغاثة إخوته في المسيحية كما قال؛ من تقديم خدمات كبيرة للملك القشتالي (ألفونسو السادس) في حروبه ضد هجمات المسلمين. فتمكن من استرداد إحدى المقاطعات من المسلمين تقع جنوب نهر (تيجو) وضمها لـ “كونتيه البرتغال”. فمنح الملك (ألفونسو) “كونتيه البرتغال” بمناطقها الإضافية، لهذا الفارس “الـﮔالي” عام 1095م.
وعندما كَبر ابن هنري ويُدعى (ألفونسو هنريكز الأول)؛ تسلم مقاليد الحكم في هذه المقاطعة البرتغالية عام 1128م. ومن هناك بدأ حروبه الشرسة ضد مُسلمي الأندلس مقتفيًا مسلك والده ومواقفه من السيطرة الإسلامية على أراضي بلاد الأندلس. لذلك يُعدُّه بعض الأوروبيين المؤسس الحقيقي لمملكة البرتغال الكبرى، لأنه تمكن من تحويلها من مجرد “كونتيه” إلى مملكة مستقلة في شبه جزيرة (إيبيريا)، وبشكل أدق بعد أن استولى على مدينة وميناء أشبونة الإسلامي، أو “لـ شبونة” بالبرتغالية، وجعله عاصمة لمملكته عام 1147م، وتمكن من التغلب على القوى الإسلامية التي كانت تحكم مناطق شاسعة من بلاد الأندلس. ثم جاء مرسوم البابا ( اسكندر الثالث) عام 1179، معترفًا باستقلال البرتغال، ومنح لقب “ملك” لحاكمها (ألفونسو هنريكز الأول)، مع وضع مملكة البرتغال تحت حماية البابوية، وعدم السماح لأي أمير مسيحي بالمطالبة بالأراضي التي استردها (ألفونسو هنريكز الأول) من المسلمين.
وتهيأت الأجواء السياسية تماما لـ (هنريكز) في شبه الجزيرة (الإيبيريه). بسبب ازدياد حدة الصراعات بين ملوك الطوائف الإسلامية فيها، وضعف إمكانياتهم لحماية الموانئ الجنوبية لأقاليمهم؛ مما ساعده في القضاء عليهم تدريجياً، حتى لم يتبقى في منطقة البرتغال إلا جيوب إسلامية صغيرة في الجنوب. ثم بدأت هذه المملكة عملية ملاحقة المسلمين إلى الساحل العربي شمال المغرب الأقصى بشكل فعال في القرنين الرابع عشر والخامس عشر للميلاد، فيما عُرف بالحروب الصليبية الثانية.
اشتهرت المملكة البرتغالية الصغيرة بين أعوام 1415- 1515م. بسبب حروبها التي وصفت بالصليبية ضد الممالك الإسلامية في بلاد الأندلس، وقد شاركت فيها أسبانيا كذلك، لاسيما بعد إتحاد مملكتي”أرجون وقشتاله” عام 1469م بزواج ملكيهما، وبروز المملكة الأسبانية على المسرح السياسي الأوروبي، وسقوط غرناطة، آخر معاقل المسلمين في بلاد الأندلس في عام 1492م. وفي خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر؛ تبوأت مملكة البرتغال مكانة عالمية إبّان عصر الكشوف الجغرافية الأوروبية.
الاكتشافات الجغرافية البرتغالية:
كانت مملكة البرتغال، أول الدول الأوروبية الغربية التي وصل مستكشفوها بقواهم العسكرية الحديثة آنذاك، إلى مياه المحيط الهندي بين قارتي آسيا وأفريقيا، والمحيط الهادي جنوب قارة آسيا. فكانوا أول من بدأ بالسيطر على طرق التجارة الدولية بين موطن التوابل في جنوب شرق آسيا والقارة الأوروبية عبر رأس الرجاء الصالح أواخر القرن الخامس عشر للميلاد، على يد القائد البحري البرتغالي (فاسكو دا ﮔاما) بعد أن وصل إلى ساحل غرب الهند عام 1498م. واضعًا بذلك حجر الأساس للسيطرة البرتغالية في قارة آسيا، وقد سبق باقى الدول الأوروبية بأكثر من مائة عام. كما أسست البرتغال بين أعوام 1499 -1580 خلال بضع سنوات أول إمبراطورية أوروبية شاسعة، امتدت من شرق أفريقيا والخليج العربي إلى جزر أندونيسيا وبحر الصين، إلا أنها بقيت إمبراطورية الحواف أو الأطراف الجغرافية.
هل قصد البرتغاليون المياه الشرقية غزاة أم تجار؟
منذ البداية تركزت أهداف البرتغاليين تحديداً في البحث عن المناطق الرئيسة في العالم التي تُنتج “الذهب الأسود”، أو الفلفل الأسود، وهو أهم عنصر في مجموعة التوابل والبهارات الشرقية. وقد استخدم البرتغاليون في تحقيق تلك الأهداف قوتهم البحرية الأوروبية الحديثة آنذاك، التي اعتمدت على سلاح السفن عابرة المحيطات، والبارود بالمدفعية الحديثة حينها في القرن السادس عشر. ثم أسس البرتغاليون ما سُمي بدولة الهند: Estado da India.
تمكن البرتغاليون من السيطرة على طرق التجارة الدولية بتشديد قبضتهم على النقاط الاستراتيجية والجزر المهمة والمضايق البحرية التي تمر بها التجارة العالمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر للميلاد. كما حاول البرتغاليون تغيير وجهة انتقال تلك التجارة بتحويل مسارها من الطرق التقليدية الداخلية الآسيوية إلى طريق المحيطات عبر رأس الرجاء الصالح إلى أوروبا. وادعاء السيطرة المطلقة على طرق التجارة الدولية عبر المحيطين الهندي والأطلسي؛ والتجارة البحرية وضرائبها. كانت كل النشاطات البحرية البرتغالية مدعومة ماديًا من كبار أمراء المال في مدينة (انتويرب-Antwerp) الهولندية.
البرتغاليون بين السيطرة والاستعمار:
أسس البرتغاليون إمبراطوريتهم البحرية حول حواف المحيط الهندي، بعد غزو الهند. في عام 1505، تحت إدارة أول نائب لملك البرتغال في الهند، المدعو فرانسيسكو دا ألميدا (Francisco da Almeida)؛ جرى تغيير حقيقي وملموس في السياسة البرتغالية تجاه عالم المحيط الهندي، تبعه عام 1507 غزو سواحل عُمان وجزر الخليج العربي على يد القائد البرتغالي المعروف (أفونسو دي البوكيرك – Afonso de Albuquerque).
حقيقة الاستعمار البرتغالي للخليج والبحرين:
بالنسبة لوصول البرتغاليين إلى الخليج العربي، لابد من ذكر حقيقة ظاهرة، بأن المنطقة لم تكن تتمتع بكثافة سكانية كبيرة، كما أن معظم السكان كانوا يتواجدون على الساحل. وحراك التجارة البحرية تركز أساسًا في تجارة العبور البحرية عبر مضيق هُرمز، وهي المصدر الرئيس لازدهار تلك المملكة وثروتها منذ مطلع القرن الرابع عشر للميلاد، خاصة تلك التي يأتي ريعها من بضائع الهند والشرق الأقصى، إذ كانت هُرمز أهم مثل بارز في الخليج آنذاك لتلك التجارة. أما الجانب الاقتصادي المُساند في الأراضي البرية؛ فكان يعتمد على سبُل الحياة المعيشية لمفاصل الحياة البدوية، ومن أهم عناوينها البارزة: تربية الماشية، والخيول. بالإضافة لتجارة القوافل- وبيع الخيول العربية والفارسية الأصيلة الذي كان يتم من موانئ شبه الجزيرة العربية الجنوبية والشرقية.
سيطر البرتغاليون بدايةً على جزيرة هُرمز عام 1508، وبشكل تام عام 1515م. كما وضعوا حامية دائمة لهم في قلعة المدينة، ومنها انطلقوا للسيطرة على أجزاء متفرقة من الخليج العربي بقوة صغيرة كانت متمركزة في جزيرة هُرمز أساساً. فبعد حوالى سبعة أعوام، أي عام 1521م، تم غزو جزر البحرين والسيطرة عليها بشكل غير مباشر أي ليس استعمارًا كما نُطلق عليه خطأً.
بموافقة من دييجو لوبش دي سيكيرا (Diego Lopes de Sequeira)، حاكم الهند بين عامي (1518-1522)؛ قام قائد الجيش البرتغالي في هُرمز، جارسيا كوتينهو (Garcia Coutinho)، بغزو جزر البحرين عام 1521، بمساعدة من ملك هُرمز “توران شاه الرابع”، الذي شجع البرتغاليين على احتلال البحرين من أجل القضاء على خطر الجبور، والإطاحة بحكم العرب فيها، ومن ثم تعزيز سيطرة البرتغاليين على منطقة جنوب غرب الخليج بشكل أكبر. وكانت الدوافع بجانب ذلك، هي طمع الهرامزة والبرتغاليين بثروة البحرين من منتجات زراعية، ومياه عذبة، ولؤلؤ، وهو ما تفتقر إليه هُرمز تمامًا.
وقد تم غزو البحرين عن طريق إرسال حملة عسكرية بعدد سبعة سفن ضد لفرض دفع الجزية على البحرين. أُعطيت قيادة الحملة إلى أنتونيو كوريا (António Correia)، ابن أخ قائد هُرمز (كوتينهو)، وشرف الدين الفالي وزير هُرمز والمساعد الأول لملكها. تكونت الحملة من 400 جندي برتغالي، وعدد 3000 مقاتل هُرمزي ومن العرب أيضًا، تم نقلهم في أسطول مكون من 200 قارب من هُرمز تحت قيادة الوزير شرف الدين الفالي. فهل هذا هو شكل الاستعمار الذي نعرفه في الدراسات والبحوث؟؟ حملة على جز البحرين في الخليج، فقط لفرض دفع الجزية عليها!
هل نسنتطع القول بأن هُرمزً كانت تُعدُّ رمزاً للاستعمار البرتغالي للخليج؟
ركز البرتغاليون جُّل اهتمامهم على مملكة هُرمز أساسًا التي كانت تضم الجزيرة المسماة بُهرمز، وعدد سكانها كان لا يتجاوز الـ 40 ألفًا نسمة، معظمهم من أثرياء وتجار هُرمز وسواحل الخليج على الضفتين الغربية والشرقية بأكملهما تقريبًا. المُلاحظ بأن شاه هُرمز، كان يُدير دولة شبه تجارية، تتكون من مجموعة فروع متفرقة على سواحل الخليج تتبع هُرمز ضرائبيًا أكثر من التبعية السياسية العسكرية. كانت قلعة هُرمز الشامخة على أطراف الجزيرة شمالاً بين أعوام 1515 – 1622م؛ تشكل رمزاً للوجوده العسكري البرتغالي، أكثر من كونها رمزاً للاستعمار، لأن شاهات هرمزة بقوا على طريقة توارثهم للحكم أو اغتصابه، كما كانوا قبل حضور البرتغاليين. فقط جُلّ ما حدث هو تناقص قوتهم العسكرية بفعل كثرة الاتفاقيات مع البرتغاليين لغير صالحهم، وازدياد التمرد والثورات التي كانت تنشأ ضد البرتغاليين في أجزاء من المملكة الهُرمزية العُمانية تحديداً؟
فما هي صفة الوجود البرتغالي في الخليج العربي؟
إمبراطورية البرتغال تمحورت حول نقطتين رئيسيتين: (Estado da Iandia) وطريق (Carreira da Índia)، الذي وفر الرابط التجاري بين (Estado da Iandia) والبرتغال.
مملكة هُرمز تحت السيطرة البرتغالية، أبقت حرية الملاحة في الخليج لأنواع التجارة كافة، حيث شكلت حبل حياتها السري في البحر. ولا نُنُكر بأن البرتغاليون قد استفادوا من هذا الوضع لدعم سيطرتهم على الخليج، ولكنهم فشلوا في استعماره بالمعني الحديث، كما هو معروف. مع أنهم اتخذوا من هُرمز، موقع القوة للسيطرة على طريق الشحن التجاري الإسلامي، وتقييد حركة المرور البحري إلى الهند ليس إلا. كما لم تتمكن السلطات البرتغالية من إغلاق الخليج تمامًا في وجه التجار المسلمين. وبالرغم من القوة العسكرية والسيطرة المتمركزة في مياه الخليج بميناء هُرمز؛ والسيطرة على نظام الضرائب في هُرمز أيضاً، الذي غدا برتغالياً؛ إلا أن التواجد البرتغالي في هُرمز كان قصير الأجل، لأن سوء الانضباط، وهبوط الروح المعنوية في العسكرية البرتغالية وانتشار الفساد الإداري والمالي؛ نسف كل جهود (البوكيرك) التي خطط لها لاستمرار الوجود البرتغالي في المنطقة، لذلك لم تتمكن هُرمز من الصمود وسقطت سريعاً عام 1622م.
إذن، إذا لم يكن الوجود البرتغالي في الخليج استعماراً كما هو مفهوم فماذا نُطلق عليه؛ وهل كانت الكشوف البرتغالية في المشرق ذاتها امتدادًا للحروب الصليبية الأوروبية؟ الموضوع مازال تحت النقاش المستمر.
هامش
“كونتيه”: في اللغة الإنجليزية (county)، وفي اللغة الفرنسية (comté)، تهني دويلة صغيره أو مقاطعة يحكمها شخص من طبقة النبلاء أو علية القوم، لقبه “كونت” إذا كان رجلًا، أو “كونتيسة” (countess)، إذا كانت إمرأة. ومثل هذا اللقب كان يُطلق على النبلاء أو الشخصيات ذات الثراء والمركز الاجتماعي المرموق في أوروبا العصور الوسطى، وقد تم استخدام هذا اللقب منذ أواخر عصر الإمبراطورية الرومانية، باشتقاق من مصطلح (Comes ) أو (comitis ) باللاتينية، ويعني “مرافقو الإمبراطور” أو الحاشية بكلمة أوضح. وكانت مثل هذه “الكونتيات” منتشرة فى أوروبا في تلك القرون.