تفتح مقاطع الفيديو التي تتناول الأوقات الأخيرة، أو الساعات تحديداً، في حياة أشخاص أنهوا حياتهم بنفسهم، تساؤلات كبيرة، حول تحديد المصير عبر قرار إنهاء الحياة فوراً، وأنه ليس بالقرار السهل على الإطلاق، أو هكذا يخيل لكل الذين يشاهدون الصورة المتحركة في أسى، حيث يقطبون حواجبهم قليلاً، ثم ينتقلون إلى غيره من المقاطع المتاحة على الشبكة التي تجلب أي شيء. فتصبح مقاطع ما قبل الموت حالات عابرة، لا تستدعي التأمل أصلاً، في ظل كل هذه الفوضى التي تشغلنا طول الوقت.
ويقيناً أن قرار الانتحار لا يؤخذ في لحظات متسرعة؛ بل إنه يستغرق وقته، حتى الوصول للحظة الذروة غير المحسوب قدومها المرتبط بالحسم والتنفيذ، وقبلها يكون الشخص قد مرّ في مراحل مخاض متعددة من فقدان الأمل، واليأس ظاهرياً أو في الخفاء، يجعل نهايته حزينة أكثر من فكرة الموت الذي لا يكون وضعاً مؤقتاً بالتأكيد؛ إنه خط لا رجوع عنه، ولا أحد يفهم ماهيته، إلا كونه فقداً موجعاً لمن يهمه أمر الراحل فقط.
ضمن هذه الفكرة، يتناول عرض “جوه الصندوق” موضوع الانتحار بشكل بسيط ومباشر، عبر شاب راغب في الانتحار، يستعيد بتقنية استرجاع الحدث ما دفعه لذلك، من فشل وضغوطات دعته لمحاولة إنهاء حياته؛ التي تقطعها فتاة جاءت إلى نفس المكان، ولفعل الأمر نفسه. وبعد حوار قصير بينهما حول أولوية من يقدم على هذا الفعل أولاً، يتفقان على الانتحار، لكنهما يفاجآن بمجموعة كبيرة معهما، تمسك أيديها ببعضها استعداداً للقفز الجماعي!
كل منهم مسكون بأسبابه التي دفعت به إلى حافة مرتفع الموت. والحقيقة أن المشاكل التي ذكرت متراوحة، أو ربما هي خاضعة لتعاطي وتعاطف الجمهور مع الحالة؛ مثل الوالد الذي شعر بالأسى بعد أن دفع بابنه الوحيد، الطالب الجامعي الطموح، للهجرة غير الشرعية حتى يتحسن مستواهم مثل أصدقائه، ويستطيع بسهولة جلب الكماليات ليسايرهم في نمطهم “المستحدث”، ويكون من المتوقع جداً أن يخسر ابنه في رحلة الموت. لذا فشعوره بالأسى يفوق أي شعور آخر، أو ربما يوازي شعور الأم التي فقدت طفلها عبر والده الذي يقوم بـ”تأجيره” لمتسولة تستدر عطف الناس به! الفقد هو الحالة الوحيدة التي لا تعويض فيها؛ إما التسليم بإيمان، أو اليأس بحسرة، وما بينهما تظل فكرة الموت معلقة ومعقدة.
كذلك باقي المقدمين على الانتحار، الذين يشعرون بخسارات فادحة تغلق أمامهم أبواب الحياة – وإن كانت تعتبر بسيطة بالنسبة لآخرين – مثل فقدان سيارة الأجرة، وهي مصدر الرزق الوحيد، أو إنكار الولد لوالدته الأرملة التي أفنت حياتها ومالها من أجله، أو ذلك الطبيب الذي استعجل الموت ليقينه أن العلاج لا جدوى منه بالنسبة لتقدم حالته. وحتى مشكلة البطل الرياضي الذي أجبر تحت قهر الحاجة وعدم وجود فرصة عمل له، أن يبيع لميداليات التي حاز عليها سابقا، دون أن يلاقي مشتري لإنجازاته” وهو يعبر عن شريحة كبيرة تشبهه في الظروف؛ هذه الأسباب، وغيرها مما يمكن النقاش فيه، وإيجاد الحلول وسبل الخلاص، وحتى المشاكل الكبيرة الظاهرة، لها أيضاً منافذ لا يراها صاحب المشكلة.
ورغم أن كل ما حكي حزين ودليل أسى، لكن الشكل الخفيف الكوميدي كان يطغى على الحدث، وهي قصديّة أتصور أن المخرج تعمدها من أجل إيصال هذه الرسالة ببساطة للجمهور الحاضر، والذي لاحمه بالعرض، عبر توجه ممثلتين لهم مباشرة، وسؤالهم خارج شخصيتيهما بـ”جوه الصندوق” عن ماهية الانتحار، وفهمهم له، وتعاطفهم مع الممثلين، لتفاجأ بردود من مختلف الأعمار تعلمك أنك لست وحيداً في الحياة! هذه الأفكار، التي تطرأ لأي منا في لحظات الضعف الإنسانية، قد تكبر وتلتهم باقي الأمل في تغير الأحوال، أو زوال الهم وقرب الفرج.
لا خلفية كافية لديّ لمعرفة توجهات صندوق التنمية الثقافية المنتج لهذا العرض، والتابع لوزارة الثقافة المصرية، والذي يؤكد في أهدافه المعلنة أنه “يسير بخطى مدروسة لتحقيق مفهوم التنمية الثقافية الشاملة، ونشرها لدى مختلف فئات الشعب..”. والجملة الأخيرة تبرر إقامة “جوه الصندوق” في قصر “الأمير طاز” التاريخي البديع، والذي يقع في منطقة شعبية بالقاهرة القديمة، تسكنها فئات ربما ليست من أولوياتها التوجه لحضور عرض مسرحي في إحدى دور العرض، والحضور مجاني أيضاً، وهذا يعني إتاحة الفرصة لكل المسرحيين المهتمين وكل سكان المنطقة أيضاً وما حولها من راغبي مشاهدة العرض، حتى ولو كان من باب “الفرجة”، الذي نادى بها أحد طاقم العرض قبل بدئه مقابل القصر والشارع الموازي له، معلناً عن عرض مسرحي مناسب للجميع.
فالمسرح هنا يقام في بيئته، وهذا أمر عظيم، وتخطيط سليم، في ظل تراجع الجمهور، أو قلقهم من حضور عروض قد تبدو عصية الفهم، أو معقدة بالنسبة لغير المتخصصين أو المهتمين بفن المسرح. كما أن الخطة تقتضي بأن يكون موقع العرض التالي في “بيت السحيمي”، وهو أيضاً بيت تاريخي يوجد في شارع المعز الحيوي جداً الذي يعج بالناس من كل الفئات والجنسيات يومياً، وهذا يؤكد الرغبة في حضور جمهور غير ذاك الذي يُرى في قاعات المسرح أثناء العروض، مما يدعو للتفكر والمقارنة حول الدور الذي يقيمه هذا التواصل الحميم مع المسرح، ولم لا يكون الأمر ذاته لدينا في نوعية العروض، وطريقة استقطاب جمهور مختلف للمسرح؟!
ولم يفُت العرض تصدير البساطة في الفكرة التي كتبها وأخرجها الفنان إسلام إمام، وهو ما انعكس على قطع الديكور البسيطة جداً، والموفقة في تعدد الاستعمال حسب الموقف -في هذا الموقع المفتوح-، والإضاءة للفصل بين حكاية وأخرى، في تداخل غير ممل على الإطلاق. فالاعتماد كان على اختيار الممثلين الذين أجادوا في أدوارهم، والتنقل من شخصية لأخرى، بسلاسة تحسب لهم ولتوجيهات الإخراج، وربما هم طبقوا عنوان العرض؛ فداخل الصندوق يعني أن تخضع لمسلّماتك، وتساير كل ما فعلته سابقاً، دون التفكير في التغيير، أو تبذل قليلاً منه كنوع من التمرد أو الثورة على ما تم الاعتياد عليه. هذا يعني الاستسلام للظرف، إذ إن جميع الشخصيات كانت منقادة لمصيرها الإجباري الذي تذهب إليه بمحض إرادتها. لكن العرض لم يكمل في اتجاه اليأس والانتحار، ليجعلهم ينتقلون إلى فكرة بعيدة عن الأولى؛ خارج الصندوق.
ورمز العرض على وضع أمثلة عدة توضح -بشكل “سطحي”- مقصود أسباب إقدام هذه المجموعة على فعل الانتحار بهذه البساطة، وربما “الفنتازيا” التي تحيل إلى تبسيط الفكرة، ونفاذها إلى متلقيها، وهذا أمر يحسب للعرض جداً. فيما أن إقرانه بأهداف الجهة المنتجة، لم يُشعر المتفرج بحدث “الموت” المفزع، أو المؤلم، الذي يقبل عليه كل هؤلاء، كأنَّ الغرض منه عرض المشكلة فقط، وتقريبها للمتلقين، دون المساس ببشاعة الفعل نفسه، وما يترتب عليه من آثار للمحيطين أو للمجتمع.
لكن ربما غاب عن العرض إغفال فئة مهمة تنتحر أيضاً، وتقبل بكامل وعيها نحو ذلك، وهم الناس الذي يفرطون في سلب الحياة من أنفسهم، قطرة وراء قطرة، حتى مرحلة الجفاف الذي ينهي حياتهم، كما الزرع الحي تماماً. وأكيد أن لدى كل منا حكاية مباشرة شهدها، أو سمع عنها، تصب في هذا الطرح؛ مثل ذاك الزميل الذي اكتشف في عمر مبكر أنه “لقيط”، وأن أسرته المتبنِّية أخذته -بعد سنتي زواج أولى بلا أطفال- من مكانه مع آخرين مثله، كان اعتاد العيشة المشتركة معهم، بيد أنهم رُزقوا لاحقاً بأطفال، صار هو أكبرهم بمسافة عمرية، ومع الوقت بدأت العزلة التي جاءت طبيعية نتيجة حساسية وضعه، وضاعفت المسألة أيضاً وفاة الوالد الحنون الذي أخذ قرار التبني منذ البداية. ولأن المشكلة وجودية أصلاً في معرفة نفسه، وسؤاله عمن يكون، ومن أهله، وظروف تخليهم عنه، ومحاولة تحليل أي شيء فيه يدله عليهم، دون جدوى. بدأت أولى المشاكل بالتعبير عن هذا الضيق بشراهة وإفراط في الطعام. وعلى مدى طويل، ولكنه قصير في عمر الإنسان، كان قد جمع السمنة المفرطة وتبعاتها التي لم توصله للنتيجة التي أرادها وعبر عنها، حتى أنهاها بالاختلاط غير المحمود مع مرضى الإيدز! حدث يكتب في أسطر، ويحكى بألم عن شكل انتحار يتخذ وجوهاً عديدة. كما أن أحد المحيطين به لاحظ أفعاله الانتقامية تجاه نفسه، وتغافل عنها، رغم أنه كان بالإمكان أن يساعد في انتشاله؟
ماذا لو كانت هذه الأسرة قد تعاملت معه بلطف مثل بقية أخوته؟ وماذا لو قام أحد بـ”الطبطبة”، حتى لو على سبيل المجاملة، وليس المشاركة؟ وهل لاحظ أحد علامات الاكتئاب، رغم عدم شكواه الظاهري من وضعه؟ وهل حقاً هناك علامات يجب أن نلاحظها في المقربين حولنا على الأقل؟ من الواضح أن أكثر ما ينبه إليه العرض، ببساطة فكرته، هو ضرورة الانتباه للصحة النفسية، ومشاركة الآخرين الهموم التي نراها كبيرة، وأيضاً لابد من ملاحظة أي علامة تصدر من المقربين -على الأقل- توحي بمشكلة تعبر عن يأس، أو تؤدي إلى القرار الأصعب في إنهاء الشخص حياته.
أن ننقذ ما يمكن إنقاذه، حتى لو كان صديقاً مفترضاً في وسائل التواصل، أو شخصاً عابراً ربما لن نلقاه مرة أخرى، أو ربما أحداً طرق الباب رغبة في البوح.. ربما هذه المرة التي نلتقط فيها هذا التصور، تكون الأخيرة.