‎”في الحب”

0
64

لطالما ارتبط الحب بالرومانسية، وكأنه الحلم الذي يخلص الروح من مأساويتها، إلا أن حقيقته  تتعلق بالجانب التراجيدي الذي يصيبها، تحديدًا كما عبّر عنه جميل بثينة: “ومن العجائب أن مقتول الهوى*أبدًا يحن إلى لقاء القاتلِ”. أو في قول سقراط ضمن محاورة فايدروس: “إن المخدوش، وليس المغطى بالريش، هو ما يجب التحدث عنه حال الوقوع في الحب”.

من هذا الموضع الذي يَجرح فيه الحب، ويُصيب الروح بالخدوش، من هذا الموضع وحده تولد القصيدة. إن كل جميل وجليل لا يمكن أن تمنحه الروح من دون جُرحٍ يصبيها، وحتى العقل الراجح لا يمكن أن يُولد إلا مِن جُرحٍ يُخرجُه من العادي ومألوف إلى اللاعادي واللامألوف.

الوقوع في الحب، أو بالأحرى “وقوع الحب فيك” لا يجب أن يُتصور على أنه حل، بقدر ما هو معضلة، ولكنك في الوقت ذاته، غير قادر على الانفكاك، إذ أن الانجذاب الذي يحدث لا يجب أن يُتصور على أنه إرادي، فإذا كنت تريد أو لا تريد، وتعتقد أن لك الخيار في الدخول والخروج، فإن ما أنت فيه ليس حبًا: “الحب أعزك الله داء عياء وفيه الدواء، ومقام مستلذ، وعلة مشتهاة، لا يود سليمها البُرء منها، ولا يتمنى عليلها الإفاقة (ابن حزم، طوق الحمامة)”.

يأتي الحب مثل نهر قد هُدَّ من سَد، ولا يمكنك بأي حال من الأحوال مقاومته، فالمقاومة تعني الألم، الذي يخلفه فعل السباحة ضد التيار؛ وإذا أمكننا تصور راء الحرب الزائدة على الحب فإنها ليست إلا راء الرائد للدخول في الميدان أو الوقوف متفرِّجًا، أما في الحب فإن الراء تسقط منك: إنك واقف ولكن غير مستقر، متحرك ولكن بلا إرادة، لا في دخولك ولا في خروجك.

في الحب أنت مجذوب، على وزن مفعول، أي أنت مفعول به، والفعل معروف، والفاعل ضمير مستتر. أما الانجذاب في ذاته، فيمكنني القول بأنه نابع من ذلك الجزء المجهول الذي يكشفه لك الحب عن ذاتك، وفي ذاتك، فالآخر – المحبوب – لا يكشف لك شيء، إنه وسيلة الله/القدر إليك للتعرف إلى نفسك. إنه ذاك الانجذاب عينه الذي قاد آدم وبشكل لاإرادي نحو الشجرة المحرمة، فعرف ما لا يجب أن يعرف، وانكشف له الغطاء.

‎إذا جاء الحب إليكم، خذوا آلامه ليعطيكم قصائده، وتقبلوا جرحه ليعطيكم لذاته، أما الأنا العليا فإنها أمامه لاشيء، سيكشف اللثام عنها، ويهتك الستر، لأنه لا يستأذنها، إنما يميط عنها، ويحرق السياج الذي أقامته حول الذات، يمزق الأنا وما فوقها. دعوه يفعل ذلك، وفي جميع الأحوال ما لكم من سلطان عليه غير أن تدعوه يفعل. لأنه النقطة ومركز دائرة الوجود، بدء كل الأشياء ومنتهاها.