من وجهة نظر نفسـ/علمية
لماذا الحرب؟!
في مطلع القرن الماضي وتحديداً في 30حزيران 1932 وعلى وقع خطابات الحرب الصاخبة، وصعود النازية وتحرك الرايخ الثالث لدخول فيينا، يرسل أينشتاين رسالة إلى فرويد يطلب فيها منه إطلاعه على الدوافع النفسية التي قد تؤدي لنشوب الحروب بشكل دائم.
ينطلق أينشتاين في رسالته من تصورٍ علمي يحاول من خلاله مقاربة الأمور بشكلٍ عقلاني، ويتساءل إن كان هناك وسيلة ما واقعية أو علمية وتكون فاعلة يمكن تطبيقها لتساهم ربما في إنقاذ البشرية من كارثة حربٍ وشيكة قد تحدث في أي وقت.
مع تطور مستوى الوعي الإدراكي عند البشر والذي أدّى إلى التقدّم التقني الهائل ومستوى التمدّن العالي، أصبح التعدد في التوجهات داخل الدولة الواحدة ممكناً، الأمر الذي مكّن البشر من إنشاء واعتماد القانون للمحافظة على السلم الأهلي والنماء الإقتصادي برعاية مظلة واحدة وهي الدولة التي تحتوي كل ذلك التعدد، إلا أن هذا القانون قد اصطدم بأولى عقباته – كما يقول اينشتاين – التي تمثلت في أن القضاء إذا مُنح سلطة ضعيفة سيلجأ الى الإلتفاف على القانون ولا يمكن للسلطة أن تنفك عن القانون فهما متلازمتان. ويذهب أينشتاين بعيداً في تبني قانوناً عالمي يلتزم به الجميع فتكون قراراته قاطعة ولازمة، ويطرح أينشتاين فكرةً يقول فيها:”إن الطريق إلى الأمن العالمي يؤدي الى تخلي الدولة عن جزء من حريتها في التصرف بشؤونها وجزء من سيادتها أيضاً. ويجب أن لا ندع مجالاً للشك بأن لا طريق سواه سيؤدي إلى تحقيق الأمن” (الغريزة والثقافة ص129)، لايوجد أي إمكانية لتحقيق هذا المقترح في عصر صعود الأنظمة الشمولية والدكتاتورية، أعني في زمن أينشتاين، ويعترف هو نفسه أنها فكرة صعبة التطبيق في ظل تصاعد واحتدام النزعة القومية عند الدول والشعوب.
يبدي أينشتاين استغرابه وتساؤله الذي سيوجهه إلى فرويد، في شأن مشاعر الجماهير التي قد تتأجج إلى حد الإندفاع والتضحية بالنفس، بتأثرهم بوسائل الدعاية والتحشيد، هل لأن الإنسان يضمر الشر في داخله ويحمل رغبة دفينة في التدمير تكون غير ملحوظة في الظروف العادية وتظهر منفلتةً خلال الأوضاع الشاذة التي يمكن فيها إيقاظ هذا العداء والعنف بسهولة الى حدٍ ما، حتى يتحوّل الأمرإلى عُصاب جماعي؟
سيحاول فرويد الرد على التساؤلات التي راسله بها اينشتاين عبر تحليل نفسـ/علمي يتبع فيه سير التطوّر الفكري والحضاري لدى البشر، وفيما يتعلق بالقانون يعتقد فرويد أن القانون هو بحدّ ذاته وسيلة أخرى لممارسة العنف إلا أنه يقنن ذلك العنف ويحتكره في السلطة صاحبة الشأن وهي الطرف الأقوى، وبالتالي يتم إخضاع القوى الأضعف التي يمارَس عليها القانون والسيطرة عليها والتخفيف من حدّة جموحها. وبسبب تفاوت القوة في المجتمع قد يحاول الأفراد من الأسياد وأصحاب النفوذ التحرر من بعض القيود القانونية الملزمة والرجوع إلى سلطة العنف، وهذا سيدفع تطلعات المضطهدين المستمرة بُغية الحصول على المزيد من النفوذ وملاحظة هذه المطالب في روح القانون المطبق عليهم، وسيدفع تعنت الأسياد بالمقابل إلى نشوء اضطرابات وثورات تتطلع إلى توفير الحقوق والمساواة بين مختلف فئات وطبقات المجتمع، وهو ليس بالأمر السهل إن لم يكن من أكثر الأمور الإجتماعية تعقيداً.
يرى فرويد أنه لابد من توفر شيئين لتحقيق تماسك المجتمع وهما فرض العنف المقنن من جهه وترابط المشاعر المشتركة، أي ترسيخ الهوية من جهة أخرى، وأن هذان المقومان يسند كل واحدٍ منهما الآخر، وإذا انهار أحدهما يستطيع الآخر حفظ المجتمع من الإنهيار. ويقول في خصوص مقترح أينشتاين بإمكانية إنشاء سلطة عالمية مركزية تضبط جميع الدول والمجتمعات، بأنها فكرة لايمكن بلوغها إلا بعد خوض حروب أهلية رهيبة:”فإن محاولة تعويض السلطة الواعية بسُلطة الأفكار باتت محكومة بالفشل اليوم، وسيخطئ المرء الحساب إذا لم يضع في نظر الإعتبار بأن القانون لم يكن في الأصل سوى عنفٍ فظ ولا يمكن أن يستغنى عن العنف في الوقت الحاضر” (الغريزة والثقافة ص138 ).
يسهب فرويد في تحليله لما يسميه بمذهب الغريزة الذي أشار إليه وتساءل عنه أينشتاين فى مراسلاته مع فرويد. يرى فرويد من وجهة نظر التحليل النفسي أن غرائز الإنسان تتألف من نوعين متناقضين ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وهما غريزة الحياة والمتمثلة أساساً في النشاط الجنسي وتهدف إلى حفظ النوع، كان فرويد قد عرّفها بـ”إيروس” التي استعارها من محاورات أفلاطون. والثانية نقيضة الأولى وهي غريزة الموت وهي غريزة عدوانية هدامة وعرّفها أيضاً بـ”ثاناتوس”. وتمثل هاتان الغريزتان التناقض الثنائي المعروف بين الحب/الكُره، الخير/الشر، إذ أن مظاهر الحياة تتجلى عبر التجانس والتناقض بينهما.
وعلى الرغم من أن غريزة الحب تنزع إلى البقاء إلا أنها تمتلك بين طياتها روحاً عدوانية إذا ما أرادت تنفيذ رغباتها. وتدفع غريزة الموت إلى الهدم والتدمير فتواجه الأشياء الخارجية المخفية (الوقعية والمتوهمة) المهددة لحياة الكائن البشري، فيحافظ على حياته من خلال تدمير ماهو غريب، وهي خاصية دفاعية طوّرتها الكائنات الحيّة للحفاظ على بقائها. ويرى فرويد أن استئصال النزعة العدوانية المتأصلة في النفس البشرية أمر متعذر ومستحيل، إنما يمكن إشغالها وإلهائها لكي لا تجد تعبيرها في الحرب. يسعى الإنسان دائماً لمكافحة نزعة الحرب لكنه إلى يومنا هذا لايمكنه القضاء عليها تماماً وإنهائها.
يقول فرويد:” يجب علينا أن نبذل المزيد من العناية والإهتمام، وأكثر بكثير مما كنا نفعل في السابق، من أجل تربية طبقة رفيعة ومستقلة التفكير ولا تهاب الإرهاب وتكافح من أجل الحقيقة، فتتحمل مسؤولية قيادة الجماهير غير المستقلة. ولسنا بحاجة هنا الى إقامة الدليل على أن عملية التهذيب هذه لا تصلح لتعسف السلطة وظلمها، ولا لحظر التفكير الذي تفرضه الكنيسة. ويقوم هذا الوضع المثالي بالطبع على وجود جماعة من الناس الذين يخضعون غرائزهم الحياتية إلى سلطة العقل وحده. ليس هناك من هو قادر على تحقيق الوحدة الكاملة والصامدة للناس غير هذا الوضع المثالي، وحتى في ظل انعدام ارتباط المشاعر بينهم، لكن هذا أملٌ خيالي على أقرب الإحتمالات. أما السبل الأخرى الكفيلة بوضع حدٍّ للحرب فهي بالتأكيد تلك السبل الميسورة التي لا تبشر بالنجاح السريع، والمرء لايفكر بالمطاحن التي تطحن ببطء قبل أن يحصل على الدقيق.” (الغريزة والثقافة ص143)
وفي مقابل كل ذلك يتحتم على الأطراف المسالمة أن تتسلح بالقوة لأنها قد تُدفع الى الحرب دفعاً وقد تتعرض للهجوم من قبل الأطراف التي تنزع للحرب والغزو، لا أن تقف مكتوفة الأيدي طالما كانت هنالك أممٌ مستعدة لإبادة الآخرين بلارحمة لهذا يتعين على الأمم الأخرى بالمقابل أن تكون مستعدة للحرب دائماً بالمقدار ذاته من باب الدفاع عن النفس وعن حقها في البقاء، كما يرى فرويد وكما أشرنا سابقاً بأن غريزة البقاء والحبّ تحمل في داخلها بشكل أوبآخر شيئاً من العنف وشىئاً من غريزة الهدم.