الحريق

0
18

شاهدوه يعدو أمام المكتبات، يدخل في كل مكتبة ويلمُّ كل كتبه المعروضة فيها ويراكمها أمام الباب، يرشُّ عليها الكيروسين، يشعلها بعود كبريت لتتراقص النيران على إيقاع الحروف. استغرب المارةُ وتجمهروا يشاهدونه وهم صامتون. مرّ على خمس مكتبات وتصرّف بنفس الطريقة، وأمام المكتبة الأخيرة حضر رجال الشرطة على عجل، حذروه بأنه بهذه الطريقة يهدّد الأمن، نظر إليهم وهو يضحك بأعلى صوته ويصرخ “ماذا عن أمني أنا..ماذا عن وجودي أنا”، ثم أسرع بالجري بعيدًا عن موقع جريمته.

جلس على البحر ومعه كمّية من الأحجار الصغيرة، يرنو إلى الزرقة والموج الصامت الذي بدا له أنه يضحك ساخرًا منه، فبدأ يرجمه كل عدة ثوان لينفّس عن قهره انتقامًا من عشقه الطويل للبحر وموجه وزرقته وعن كل ما كتبه متغزّلًا به ومتيمنًا بقدرته على مسح كآبته ومنحه طاقة إيجابية تسعفه في مواجهة وحشية الحياة والناس.

أغرق في التفكير وهو شبه مغمض العينين، وكأنه بين النوم واليقظة، تذكّر صباه عندما نشرت له جريدة أسبوعية أول عمل إبداعي، يومها شعر أنه يمتلك العالم كله، وأنه أصبح من الصفوة أو النخبة..من الطبقة المثقفة التي تصنع العالم وتغزل السحب والمطر وتحرّك الجماهير الواسعة وتصفق له إجلالًا وإكبارًا.

غيّر من موقع جلسته، افترش الأرض مستندًا إلى جدار اسمنتي وهو يرنو إلى النوارس وهي تحلّق فوق رأسه، شعر فجأة أنها تجمّعت كي تخفف عنه ضياعه وغربته الزمانية والمكانية. كان هاتفه لا يتوقف عن الرنين فاضطر إلى أن يضعه على الصامت.  توقّع أن صوره وهو يحرق كتبه قد غطّت السوشيال ميديا. وأصبح حديث المدينة والناس، كل الناس. أخيرًا أصبح مشهورًا يعرفه الجميع، ليس المثقفون فقط بل عامّة الناس أيضًا. كاتبٌ يشتعل جنونًا فيشعل كتبه محتجًّا على موت القارىء. لا يهم ما يقولون، المهم أنه تخلّص من كتبه ومن وهَم الحروف التي عذّبته كثيرًا وخلقت له سلسلة من المنافي وهو في بلده. لعن الله من أشار عليه أن يكتب ليصبح كاتبًا يبلغ قِمم المجد. نعم بلغ قِمم المجد بالفعل لكنه مجد الاكتئاب والحرمان وجفاء الأقربين.  يتمنى منذ زمنٍ أن يبكي فإحباطاته هي كتل ضخمة من البكاء، غير أنه فقد القدرة على بثق الدمع. هو يبكي البكاء كله بنشيج الروح دون عبرات، العينان شاردتان في المجهول غير المفهوم. كل الأحلام والرؤى ارتطمت بجبالٍ غير مرئية هي التي تقبل عليك فجأةً دون موعد فترتطم بك وتهشّم كل ما بك من جمال ونقاء. حلم بتغيير العالم في رواياته وقصصه ونصوصه، فتغيّر هو فقط إلى رجل يحلم أن يعانق الصمت، فالصمت بطولة في هذا الزمن السريالي.

تذكّر أنه تمكّن أخيرًا من ـن يمحو بعض العتمة ولو وقتيًا عندما أطعم كل كتبه للنار فاعتبره إنجازه الوحيد في طريق النور.



عندما توجّه إلى بيته في وقت متأخر من الليل، وجد إحضارية من الشرطة، مثبّت فيها جرائمه: ” تهديد السلم الأهلي وتحريض الناس على القراءة بطريقة غير مشروعة”.