في عالم اليوم، لا يمكننا أن نغفل أبداً عن أهمية التحديث ومكانته في حياتنا. هذه الأهمية التي تتصل بجميع مجالات الحياة، بدءاً من الأنظمة والإدارة والسياسة، وصولاً إلى الثقافة والمجتمع والحياة العامة.
يرى الكاتب سلامة موسى أن الثقافة تؤدي إلى الحضارة، فالثقافة، برأيه، هي الطريق الحقيقي نحو تفعيل الحضارة، وعبر هذه القاعدة التي تقول: إن التعرف يؤدي إلى التأثر، والتأثر يؤدي إلى التحرك. والتي يوجزها سلامة موسى في أحد فصول كتابه الهادف: “ما هي النهضة”، متناولاً، ببراعته المعهودة، فصولاً تاريخية، لتاريخ التحديث وبدايات النهضة.
إن الفكرة العامة للتحديث، تكمن في الانتقال من القديم إلى الجديد. وغايته الرئيسية، هي الارتقاء بالإنسان والنهوض بالحياة. وقد أشرنا في المقال قبل الأخير، أنَّ قيم التحديث العصرية في المجتمعات الخليجية، قد بدأت فعلياً في مرحلة السبعينات، ولكن هذه القيم، متصلةٌ بالأسباب الإيجابية، والتي جعلت منها فاعلةً في البيئات الاجتماعية المختلفة؛ ومنها بدايات التعليم واكتشاف النفط، وأيضاً التأثير التجاري والثقافي، الذي كان فاعلاً ومدهشاً في الحياة العامة، في بلدنا البحرين خصوصاً.
مراحل التحديث في المجتمعات التقليدية لن يكون تحقيقها في غاية السهولة بطبيعة الحال، لأن البنية الثقافية والاقتصادية فيها كانت شبه معدومة؛ ولكن، ومن خلال الأسباب الموضوعية والذاتية، أصبحت هذه المجتمعات تكتشف التحديث شيئاً فشيئاً، وترى نتائجه المختلفة والمهمة في الحياة العامة.
إن تحديّات التحديث اليوم، لا زالت متشابهةً بين الماضي والحاضر. هذه التحديات، التي يختصرها التراجع الثقافي والحضاري، خصوصاً ذلك الذي يدعمه الجمود والوهم، والذي نراه بكل وضوح في تمجيد الماضي، بالرغم من مراحله المظلمة والسيئة. وإنَّ الرجعية في حقيقتها، هي عقلية الخضوع والتشاؤم، والتي تنتشر غالباً في البيئات التقليدية، البعيدة عن قيم التنوير والتقدّم. والذي يدعو للأسف، أنَّ هذه العقلية، تصل في بعض الأحيان، لتقييم الحالة الأخلاقية في المجتمع؛ وتتحدث بقناعةٍ ساذجةٍ وتقول: (إنَّ البشر السابقين والقدماء، كانوا أكثر أخلاقاً منا). وهذه المقولة الجامدة، من الطبيعي أن يقابلها الغضب، لأنها إهانةٌ واضحة لحياتنا الحاضرة، أي لأخلاقيات التنوير وإيجابيات التقدّم.
مكانة التحديث في الحياة العصرية لا يمكن لها أن تُنجِزَ فعلياً، من دون التأصيل والتنوير، على أهميته في الحياة الإنسانية. وإنَّ تطوّر الأنظمة، الادارية والسياسية والاقتصادية، لا يمكن له أن يكون، من دون وعي النخب وأصحاب القرار، بمكانة التحديث ودوره الايجابي على الحياة والشؤون العامة.
التطوّر الاقتصادي في حياتنا الحاضرة، يحمل أيضاً، تأثيراً مهماً في تفعيل عملية التحديث، في مجتمعاتنا الخليجية والعربية. وإنَّ الحداثة التي نعيشها اليوم، الراقية والهانئة والمتمدّنة، إنما تعود ثمراتها الأولى، إلى النهوض والتحديث في العقود والمراحل السابقة، تلك التي بادرت بها الرغبة الكبيرة في التجديد والحياة.
عندما نحاول الاضاءة على مشاريع التحديث والنهضة في مجتمعاتنا اليوم، من الطبيعي ألا نتغافل عن أخطر المعوّقات التي تواجه هذه المشاريع؛ والتي تتمثل من خلال في الجمود الفكري والأفكار الرجعية، تلك التي تدعمها التقاليد السيئة في الثقافة الاجتماعية. وعند الاشارة إلى الثقافة في المجتمع، من الجدارة والمسؤولية، ألا ننسى هنا، مكافحة المعتقدات الخاطئة، تلك التي تتحدث دائماً عن الزهد في الحياة – ومعناها أن نترك الحياة وأن نتخلَّى عنها – والتي تقوم بترويجها العقلية الدينية التقليدية. وإنَّ أساس هذه المفاهيم والمعتقدات، قادمٌ من الوعظ والازدواجية، البعيد عن المسارات العلمية الصحيحة للعلوم النفسية والاجتماعية. هذه العلوم، التي تقوم بتحليل وتشريح الأبعاد النفسية والاجتماعية للإنسان، حيث أنَّ الرغبات والأخلاقيات، بحاجة إلى التنظيم والتوازن، بدلاً من الكبت والمواعظ التي تساهم بالكثير من الخسائر والأزمات، بحق الإنسان والحياة.
القيم التقدّمية ومبادئ الحداثة، كانت ولا زالت، تعمل على إعلاء مكانة الفرد وقيمته في هذه الحياة. ولأن هذا الفرد، هو النواة الرئيسية لتحقيق النهوض والإبداع، وعلى قاعدة القيم الإنسانية، التي تساهم في تطوير المجتمعات البشرية.
مسارات التحديث في مجتمعاتنا الخليجية والعربية، من الطبيعي أن تواجه الكثير من مظاهر التردد والاختلاف، خلال العقود والمراحل السابقة. ولكننا اليوم، ومن خلال النضج والثقة وتحمُّل المسؤولية، نستطيع مواجهة هذا المظاهر، عبر إيجابيات التحديث الواضحة، لشؤون الحياة المختلفة. وإنَّ التناقض الذي يعمل على الاحتيال الواضح للمتطلبات العصرية، إنما هو في حقيقته احتيال على الذات، وعلى تاريخ الجهود الكبيرة، التي بذلتها ثقافة التنوير والاكتشاف، لقيادة الانسان نحو النور، بعد تجارب الأزمنة الماضية، الصعبة والقاسية، من حياة التراجع والظلام.
في الختام، ومن باب التأكيد على أهميّة المستجدات العالمية، والتي بدأت بالتبلور في هذه المرحلة، وهي من نتائج التحديث والنهوض والتطوّر للقوى والأطراف الدولية المختلفة؛ التي أسّست بدورها وجهودها وعملها، تأثيراً وازناً ومختلفاً، في مواجهة القوى الدولية الكبرى، صاحبة النفوذ التاريخي في الساحة العالمية، وجب القول إنَّ التحالف الأصدق بين الأقطاب الكبرى في الغرب والشرق، قد قام بتأسيس المعادلات الجديدة، المهمة والاستثنائية، ومن خلال ثلاثية القوّة والذكاء والحكمة، لمعالجة التوازن المفقود في السياسات الدولية الراهنة.
الدور والأهمية للتحديث في الحياة الإنسانية، هي الغاية الطبيعية الأولى، في تاريخ الوجود البشري. وإنَّ مكانة البشر من هذه الغاية، تكون من خلال هذا الدور الايجابي، الذي يهدف إلى زيادة العدل والخير والاحترام في حياة الإنسان.