مرغريت ميتشل ورواية ذهب مع الريح

0
117

 لو لم تمت مبكراً، فلربما كان لها في حياة الأدباء شأن أكبر، لكن كثيراً من الأدباء والمفكرين والفنانين يمرون بالأرض سراعاً، ومع ذلك يتركون آثاراً باقية طويلة البقاء، ومارغريت ميتشل (1900 – 1949) من هذه القلة التي طبعت جيلها بطابعها الخاص من خلال روايتها اليتيمة (ذهب مع الريح)، لنكون، في جزئي الرواية، إزاء قصة حب، وإن شئت فقل إزاء سيرة حبّ بارعة في معانيها ونتائجها، وتشاء الأقدار أن تتوفى كاتبتها في حادث تصادم سيارتين عن عمر لم يتجاوز التاسعة والأربعين سنة.

تتابع الصور في الرواية، وتختلف فيها المناظر، وتكثر فيها الأحداث، وتثار فيها عواصف الغيرة والمنافسة. تتبع الأحداث بشغف وتوتر ومجالدة لترتاح  في نهاية المطاف من عناء ومتابعة تلك الأحداث المتتالية التي نلهث وراءها ولكن بفضول ومتعة، فقد بذلت الكاتبة في هذا العمل ما يبهرك ويسحرك لتنفق الساعات الطوال في قراءتها دون ضيق أو ملل، فهي تضجّ بالحياة، وتملأها العاطفة، والصراعات وحتى الحرب، حيث تؤرخ الرواية، التي يزيد عدد صفحاتها عن الألف صفحة، لأحداث الحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية، ففيها لذة للنفس ومتعة للقلب، وما يبعث على رضا من يحبّ الأدب، فضلاً عن اللفظ المتين والأسلوب الرصين، حين يتابع، عبرها، ما جرى من أحداث تلك الفترة بدءاً من عام 1861، فاستحقت الكاتبة عن جدارة الشهرة والثناء على ما أنجزته من عمل خلّدها وأبقاها حيّة في قلوب محبي الأدب.

صوّرت لنا الكاتبة الحياة في تلك الحقبة في طائفة من الصور، فالتمست في أحداث الحرب والحب موضوعاً لمعرفة أحوال الناس في حياتهم اليومية، وفي صلاتهم المألوفة، وفي عواطفهم، ما اقتضى أسلوباً خاصاً يُحسن وصف تلك الأحداث ويجيد التعبير عنها فلاءمت بين اللغة وتلك الحياة، فهي تتمثّل بعض هذه الأحداث وكأنه لم يمض عليها الوقت، فليس من المستغرب إذن أن تستغرق كتابة هذه الرواية ست سنوات نظراً لضخامة حجمها، خاصة وأن الكاتبة عانت من مرض روماتيزم المفاصل مما أدى إلى اعتزالها للصحافة لتتفرغ لشؤون المنزل بعد زواجها برئيس تحرير صحيفة (اتلانتا جورنال) التي كانت تعمل بها كمحررة صحفية.

كانت تصف الأحداث بتوسع كما كانت تصف شخوص الرواية كما كانت تصف لذة الحب، كما كانت تصف أي موضوع من مواضيع الحرب الدائرة ين الشمال والجنوب في أمريكا بكل اقتدار وبأناقة فائقة الجمال والروعة، في وصف المشاعر الإنسانية وفي التعامل مع السود كرقيق أو محاولة تحريرهم من العبودية كبشر لهم ما للبيض من حقوق وعليهم ما على البيض من واجبات استدعت تعديل الدستور الأمريكي.

رواية مزدحمة بالأحداث والشخوص، متعددة الأماكن، وجدت في العلاقة العاطفية  بين شخصيتين رئيسيتين وهما (سكارلت أوهارا) و(ريت بتلر) مفتاحاً للموضوع،  حينما نسجت خيوط بدء هذه العلاقة العاطفية بكل ما يتعلق بسلوك الناس في ظروف الحرب، وبتفكيرهم وعاداتهم، وما يواجهونه في تلك الظروف العصيبة، شارحة ببراعة كل شاردة وواردة، لتصبح مارغريت ميتشل من أشهر الكتّاب الأمريكيين الذين كتبوا عن الحرب الأهلية، حيث تفتننا شخصياتها كشخصية (ميلاني هاملتون) من حيث النفس السمحة الوديعة، القوية العالية الطيبة والهدوء والإخلاص والشجاعة والكرم وحب الآخرين وبالخصوص لزوجها (آشلي ويلكس) الذي تحوم حوله بطلة هذه الرواية (سكارلت أوهارا) للايقاع به بغرامياتها المتعددة بعد أن خلب عقلها فأحبّته حبّا عاصفاً، لما كان عليه من خصال جميلة، رقيقة، مؤثرة خليقة إلى جانب كونه ظريفاً، لبقاً رشيقاً، خفيف الروح، فاتناً، فكان من أجمل الناس وجهاً، وأحسنهم صورة، وأرقّهم لفظاً وأعذبهم حديثاً، ما جعلها تتيه بهذا الجمال الذي أحدث في نفسها ما أحدث، فملك عليها يومها ونومها، واحتملت بسبب ذلك من الآلام والأثقال الشئ الكثير، الا أن نفسه امتلأت ريبة بما تظهره له وبما تعرض عليه من شهوات فلم يبادلها الحب وظلّ وفياً لزوجته رغم كل تلك  المغريات.

رسمت لنا مرغريت ميتشل في “ذهب مع الريح”، وبإتقان، صوراً عديدة من شخصياتها بمختلف الوجوه منها الطيب ومنها الخبيث، منها المحب ومنها السئ، منها المخلص ومنها اللئيم، منها الجميل ومنها القبيح، وعالجت كل هذه الألوان من الناس بموضوعية وبحرفية، لتصبح روايتها فيلماً أنتج في العام 1939 وفاز بعشر جوائز أوسكار.

الخيال الواسع للكاتبة والشغف بالدراسات التاريخية وتاريخ المستعمرات كان حافزاً لها في ابراز موهبتها في الكتابة إلى جانب ما سمعته في طفولتها من أفواه المسنيين عن احداث الحرب الأهلية وعلى الأخص الخدم من الزنوج، فعكفت على قراءة الوثائق والأسانيد عن تلك الفترة لتلمّ بانعكاسات تلك الحرب على المزارعين الجنوبيين وصعود المجتمع الصناعي وما رافق ذلك من فرض القيم لجديدة للمنتصرين بانهيار المجتمع الاقطاعي وتحرير العبيد.

ومع كل هذا العمل الروائي الجميل وصل بالكاتبة حدّ التواضع لتقول بأنها ظلّت تؤمن بأنها لا تستطيع أن تصبح روائية في يوم من الأيام: “أنا أنتج بشكل بطيء .. هذا لا يُسمى تأليفًا”. “أعرف شيئا واحداً، قالت مرغريت لزوجها في أحد الأيام، إذا انتهيت من كتابة هذه الرواية فلن أعيد الكرة ثانية إطلاقاً”.