في مطلع حياتي المهنية، وحين استعرض تجربتي الصحفية في قسم الأخبار، أجد أن ثمّة اخبار كتبتها وحققت فيها ولكنها ظلت عالقة في ذهني وتأبى الرحيل والنسيان، وأود أن استعرض اليوم بعضاً منها لأعرج على نطاق الخبر الصحفي اليوم وامكاناته الهائلة.
في نهاية ديسمبر عام 1989 ذهبت للتحقيق في ملابسات غرق ثلاثة صيادين في قرية دار كليب. وصلت القرية باكراً في يوم شتوي بارد، ركنت سيارتي بالقرب من أحد المنازل وطرقت الباب الذي كان مفتوحاً. ألقيت السلام وناديت فلم أجد جواباً. خرجت إلى البيت الثاني ثم الثالث. كانت البيوت صغيرة ومتراصة وأغلب أبوابها مفتوحة أو مواربة، وكلها خالية، انشغل الرجال في المقبرة بدفن الصيادين، أما النساء والأطفال فلا أدري أين كنّ، ولكن حين عادوا إلى بيوتهم بعد ساعة أو ساعتين من الانتظار، دعوني للإفطار معهم، واحتفوا بي وتعاونوا معي وأمدّوني بكل ما لديهم من معلومات حول الواقعة وضحاياها، حيث خرج الثلاثة الذين كانوا في الثلاثين من أعمارهم من بحر المالكية في يوم عاصف وشديد الرياح فاختفوا في البحر، وقد استخدمت خفر السواحل الطائرات للبحث عنهم على مدى أيام، ويعتقد أن قاربهم ربما اصطدم بصخور كبيرة فانقلب وغرقوا جميعاً.
لاحقاً تواصل معي الأهالي وطرحوا عليّ بعض المشكلات والاقتراحات المتعلقة بقريتهم لنشرها في الصحيفة، وبودي القول إن اخباراً على هذه الشاكلة تصل إلى الصحافة في العادة من دائرة الاعلام الأمني جاهزة، أما بقية التغطية ذات الأبعاد الاخرى فهي ما يجتهد الصحفي لتحصيله والبناء عليه أو التوسع فيه.
الخبر الثاني وقع في شهر مارس من عام 1996، فقد تعرض المواطن جواد خليل لحادث سرقة معتاد. دخل السارق إلى شقة الإسكان بالسنابس في غياب العائلة والتقط صندوق الذهب وفرّ هارباً. أبلغت العائلة الشرطة التي حققت في الموضوع ولم تصل إلى معرفة السارق، لكن بعد أسبوع اتصل السارق بصاحب الشقة قائلاً: “سأعيد لك المصوغات التي سرقتها شريطة أن تمنحني شقتك بعد اخلاءها وقبل تسليمها لوزارة الإسكان”، كان من المعتاد في ذلك الوقت أن يتبادل الناس مفاتيح الشقق الإسكانية فيما بينهم إذا كانوا من أصحاب الطلبات المسجلة لدى الوزارة، وكانت شقة الإسكان وقتها مجرد سكن مؤقت لمدة يفترض ألا تتجاوز بضع سنوات، لكن الزيادة الهائلة في أعداد السكان وارتفاع قوائم طالبي الوحدات السكنية مع طول أمد الانتظار جعل الناس تتهافت على الشقق وتقيم فيها سنوات طويلة جداً.
بعد اسبوع اتصل السارق مجددا وقال: “قد تركت المصوغات الذهبية داخل كيس قماش على صندوق انابيب الغاز التابع لكم خارج العمارة”، وأردف: “أنتم اناس طيبون، وأنا كنت أراقبكم منذ فترة وطوال الوقت كان ضميري يؤنبني، لكني أتمنى أن تسلموني مفتاح شقتكم بعد ترككم لها”. يومها كتبنا في الخبر “هذا أول سارق يعيد مسروقاته ولكن بشرط” ، لاحقاً وظّفت القصة في كتابة مقال حول شقة الإسكان التي أصبحت بيت العمر، وصدقت نبوءتي إذ أن المواطن المسروق ترك الشقة بعد 10 سنوات من الواقعة، وتحوّلت الشقق الى التمليك.
الخبر الثالث يتصل بالمواطن جعفر علي، وحدث في عام 1998، إذ تعرض بيته للسرقة ثلاث مرات في ظرف أسبوع واحد في منطقة سند، في أول مرتين لم يبلغ الشرطة، وفي الثالثة فعل لكن وقبل الوصول إلى مركز الشرطة تدارك شيئاً ما وقفل راجعاً إلى بيته. اتصل بالصحافة قائلاً: “أن يسرق المرء مرة أو مرتين فذلك قد يكون أمراً طبيعياً، لكن أن يسرق ثلاث مرات، فالأجدر به أن يفتش عن نفسه لا عن السارق”، الجملة ألهمتني لكتابة عنوان مثير للخبر اتبعته بمقال وسمته بعنوان “ابحث عن ذاتك المضيّعة”.
وأتذكر في هذا السياق تلك الأخبار التي كان يتداولها الزملاء في صالة التحرير يومياً بعد العودة من رحلة صيد الأخبار والمواضيع، وكنا نتحدث حولها ونتفاعل معها، أو قد نضحك لغرابتها وطرافتها، حين اتابع التغطيات الخبرية اليوم أجدها ذات نسق واحد، تخلو من أي متابعة لاحقة، تبدو للقارئ بوصفها وجبة “سناك” خفيفة وغير مشبعة وناقصة ومختزلة، وكأن الصحفي يريد نشرها سريعاً والتخلص منها ونسيانها إلى الأبد، مع أن الخبر مفتوح على كل الاحتمالات والاضافات والاستنتاجات، والواقع أن تعليقات القراء العاديين على الأخبارالإلكترونية تنطوي على كثير من الذكاء والفطنة والجرأة والأسئلة المستفيضة المكملة للخبر والباعثة على نشوء بذور أخبار جديدة مستنبتة من رحم الخبر ذاته. الصحفي اليوم لا تعوزه الأخبار المبثوثة أرضاً وفضاءاً الكترونياً شاسعاً لا تحده حدود، بل يعوزه الشغف الصحفي المهم والضروري لإنتاج الخبر الشيّق الممتع المشبع المكتمل، الخبرالعصي على النسيان .