كان يامكان في قديم الزمان، ليس قديماً جداً، أذكر عندما كنت أجلس مع الأهل والأصدقاء وجيران الحي كنا صغاراً نلعب ونلهو بالقرب من بستان القرية أو بعض الأحيان داخله مع ما في ذلك من مخاطر، لأن صاحب البستان لن يقف مكتوف الأيدي وهو يرانا نعبث في مزروعاته، كان البستان هذا يفصل بين قريتنا والقرية المجاورة، وهذا البستان الممتد -يقول كبار السن أنه كان يصل حتى حدود ساحل البحر القريب في ما مضى- هو متنفسنا على طول فترة الطفولة والصِبا احتوى مغامراتنا شقاوتنا إنه مكانٌ محمّلٌ بالذكريات، ولم يمضي وقتٌ طويل جداً على تحوله الى لامكان..!
كان البستان بالنسبة لنا ولأهل الحي مجالاً خصباً للتأمل وللمخيّلة، فمن قصص الجنيات التي تخرج منه ليلاً الى تأمل أقواس المطر اللامعة بعد هطول المطر وظهور الشمس من بين الغيوم. يشع ضوء الشمس فيه على سعف النخيل أولاً ثم ينتشر في كل الأرجاء، هكذا كنت أراه، وتشمّ من البستان بعد هطول المطر رائحة جميلة جداً هي رائحة الأرض والزرع لحظة التقائهما بمياه المطر، رائحة تشعرك بالطمأنينة والراحة وتملأ عقلك بالذكريات. كان البستان ملاصقاً لبيت جدي الذي تربينا فيه وعشنا جل طفولتنا، كان جدي يجلس عند العصر مع أصدقائه قبالةَ البستان يتبادلون الحديث وأكواب الشاي حتى الغروب وفي الليل في أيام العُطَل واعتدال الجو كان الكبار يسمحون لنا بالجلوس معهم أمام البستان حتى قبيل الفجر يتسامرون ويتبادلون الأحاديث.
يتحدث الشاعر أحمد رضي في كتاب “المدينة والمدنية” عن المكان وعن المعالم والتضاريس التي تشكّل مايمكن أن نسميه مكاناً، والمكان هو الذي نألفه، نتربى فيه أو حوله والذي يكون لنا فيه ذكريات. يشكل المكان هويتنا ونشكل نحن هويته هي في أقرب تقدير عملية تبادلية بين الإنسان والمكان، الإنسان والمدينة/القرية/ الضاحية…الخ، أو ما يمكن أن نسميه التواصل بين الإنسان وبيئتهِ وثقافته وهي تراكمات أنتجها عبر عقود وأجيال، فالبشر عندما يكونونَ ذو طبيعة مرحةٍ ينعكس ذلك على أبنيتهم شوارعهم ومقاهيهم، وعندما يكونون عمليين صارمين تتأثر بذلك هندسة مبانيهم وأشكالها، يحرص الناس دائماً على الحفاظ على البيئة الإجتماعية وعلى مجالهم الحيوي؛ وكل “ماتفعله الرأسمالية، هو تحويل المكان بطبيعته وبيئته الإجتماعية، الى “لامكان” أي تلك الأماكن التي ليست سوى نقاط عبور، ومنها الطرق السريعة من أجل سهولة تدفق البضائع، فالطرق السريعة ليست مكاناً، هل لدينا ذكريات فيها؟ هل يمكن أن نرتبط بها؟” [1]، يشعر الإنسان بالإغتراب عندما يفقد هذه الروح التواصلية الحميمية بينه وبين المكان، يكون الإنسان غريباً عندما يهاجر هو، أو يهجره المكان.
وقفت قبل أشهر قليلة على أطلال بستان القرية الذي تم هدمه بالكامل واستحال هذا البستان الأخضر الجميل المليء بالذكريات الى تراب! يالهذا البؤس هُدِم البستان وابتعد البحر كثيراً من أجل أن تقام محلهما مشاريع تجارية وأبنية اسمنتية صماء عالية جداً لا يمر من خلالها الهواء، لا أعرفها ولا أنتمي لها ولا تنتمي لروح المكان، نوافذها الزجاجية كثيرةٌ جداً وصغيرة مثل أقفاص الطيور. هذه الأبنية الحديثة التي لانعرفها ليست مكاناً أيضاً، لأنها مجرد ممرات للعابرين ولاتنتمي لأي شيء. الشوارع والمطارات ومحطات الباصات ليست أمكنة، بحيث لايمكن للإنسان أن يستقر فيها. وقد ساهمت الأبنية الشاهقة التي تحوّط القرى والأحياء السكنية في تشكيل حزامٍ ضيّق على الأحياء السكنية مما شكل عامل سلبٍ للمكان عن مكانيته، “فبينما نحيا في عصر نظنه مفتوحاً على العالم، نجده ينغلق في المدينة ذاتها، بين أحياء تتكدس فيها الطبقات الدنيا” [2]
وغالباً ما يتم تبرير هدم البساتين وتقلص المساحات الخضراء بذريعة التمدد العمراني وازدياد عدد السكان، توفير المساكن والمباني أولى من الإبقاء على مساحات خضراء وساحات فارغة لافائدة منها، ولكن لو أخذنا على سبيل المثال بلداً مثل ألمانيا التي زادت فيها المساحات الخضراء -كما يذكر رضي- عما كانت عليه قبل الثورة الصناعية، أي أن التمدد العمراني لم يلغي المساحات الخضراء ولا الساحات العامة وذلك بفعل الدراسات والسياسات الحقيقية الجادة والعِلم والقانون. حين تطلق الرأسمالية حرية التملك والشراء من دون ضبط ورقابة قانونية يتحول كل شيء الى ملك خاص لمن يقدر على الدفع أكثر، وهذا التملك الخاص سيحاصر الناس في كل مكان ويكتم على أنفاسهم لتتحول أشياء مشاعية بطبيعتها مثل السواحل والمنتزهات والساحات العامة أو المساحات الخضراء والبريّة الى مالك واحد يسورها ويغلقها ويجعل بقية الخلق ينظرون لها من الخارج ولا يدخلونها إلا بتذكرة دخول مدفوعة الثمن أو بشروط معينة يحددها المالك. هذه السوق لن ترحم أحداً لأن طموح التملك عند البشر لا حدود له والرأسمالية بسوقها الحر تطلق العِنان لهذا المارد البشري أن يتملك ماشاء طالما أنه قادرٌ على دفع القيمة المادية. الأجدر أن توضع حرية التملك الخاص تحت الضوابط القانونية والرقابة الشعبية.
العمران الأفقي والعمودي، الإسمنتي والإسفلتي مهم ولكنه ليس كل شيء، ثمة أمور مهمة تخلق للإنسان عالمه هي ما يمكن أن نسميه المكان، الأراضي الزراعية الطبيعية المشاعية والسواحل العامة هي روح المكان ونَفَسه، ومع ذلك فإن حداثتنا بطابعها الإستهلاكي البحت تتركز فقط على البناء والبناء المستورد، لهذا فهي حداثة ظهرها الى الجدار كما قال د.حسن مَدَن:”الحداثة في مجتمعات الخليج العربي ظهرها الى الجدار لأن التحديث فيها مازال يتكيء على الجانب العمراني -المظهر غير الخافي عن الأعين- وهذا الجدار نفسه يتحول مع مرور الوقت الى صد بوجه تقدم الحداثة” [3] ،يذكرنا هذا بمدن الملح التي صاغها عبدالرحمن منيف بحِرَفيّةٍ عالية في عوالمه المتخيلة التي تحاكي واقع المدينة الخليجية قبل وبعد مراحل اكتشاف النفط والتغيرات الإقتصادية العمرانية التي طرأت وبشكل سريع ومفاجئ على المجتمع الخليجي ومدى تأثيراتها الإجتماعية على البيئة والمكان والحالة النفسيّة للأفراد. التحديث الإستهلاكي قد يسلب الفرد أهم العناصر المكوِّنة لمدنيّته ولبُنيته البيئية الحيوية ولأنه لايأتي على هذا النحو من صميم التطور المحلي التدريجي إنما هو شيء مستورد مبهم، وهنا يكمن الفرق مابين الحداثة الفكرية الثقافية والتحديث العمراني الإستهلاكي. التغيير سُنّة من سنن الحياة وعلى الإنسان أن يتكيف معه رغم صعوبته، أما أن يكون بهذه السرعة وبهذه الطريقة السلبية التي قد لايستوعبها الناس يكون الأمر أكثر تعقيداً مما نتصور.
على المدينة الحقيقية واجب مهم وهو أن تساهم في تعزيز الجوانب الثقافية وتتسع لتبادل الأفكار واحتواء المختلف، على هذا النحو يمكن للمدينة أن تكون متحضرة وبابٌ للدخول في عصر الحداثة بالمعنى الفكري الثقافي والمعنوي لا العمراني وحده، و”للخروج من الأفق الضيق “خارج الطائفة” أو “خارج الجماعة” التقليدية، وللدخول في عصر الفردية، عليك أن تبني المدن المختلطة عرقياً ودينياً، والناس إذ تخسر بهذا شبكة التضامن الإجتماعي التقليدية، تبدأ بالبحث عن تضامنيات حديثة في الأحزاب والأندية، والمراكز الثقافية والإجتماعية” [4]
مصادر الإقتباسات:
[1] | أحمد رضي، المدينة والمدنية، دار الحوار للنشر والتوزيع، 2021، p. 22. |
[2] | أحمد رضي، المدينة والمدنية، دار الحوار للنشر والتوزيع، 2021، p. 23. |
[3] | د.حسن مدن، حداثة ظهرها الى الجدار، دار الرافدين، 2021، p. 54. |
[4] | أحمد رضي، المدينة والمدنية، دار الحوار للنشر والتوزيع، 2021، p. 24. |