بقعة الآلام التي لاتحتمل
محمد ديتو
للروس أفكار مبتكرة لتكريم أدبائهم. في ساخالين وضعوا نصباً تذكارياً لكتاب تشيخوف عن الجزيرة أمام متحفه المخصص لهذا الكتاب بالتحديد. إلا أن المشهد خارج روسيا يبدو مغايراً بعض الشئ، إذ تأخر الاهتمام بهذا العمل عقودا طويلة من الزمن. صدر كتاب “ساخالين” باللغة الروسية لأول مرة عام ١٨٩٥، وتأخرت ترجمته للانجليزية حتى ١٩٩٣، وأما النسخة العربية فكان عليها الانتظار حتى عام ٢٠٢١ لتصل الى قراء العربية عبر دار المدى، بترجمة من عبدالله حبه. فماهو السر وراء هذا التأخير؟
يبدو أن شهرة ” تشيخوف” ككاتب قصص قصيرة وأعمال مسرحية عظيمة، قد ألقت بظلالها على هذا العمل البالغ الأهمية وساهمت في حجب الاهتمام به، خاصة أنه من الأعمال التي يصعب تصنيفها ضمن أطر واضحة: هل هو أدب رحلات؟ هل نعتبره بمثابة بحث أثنوغرافي؟ أم دراسة عن مستوطنات العقاب والنفي في سيبريا ؟.
في حقيقة الأمر فإن كتاب “تشيخوف” هو كل تلك التصنيفات مدمجة في نص واحد. وفي حين أن غالبية ما كتبه النقاد عن الكتاب كان عن الأهمية التاريخية للكتاب “آنذاك”، أي في روسيا القرن التاسع عشر تحت حكم القياصرة، فإننا سنسعى لمقاربة محتوى الكتاب من ثلاثة زوايا: كيف بحث تشيخوف الموضوع؟ وكيف شخّص الوضع؟ وماهي وصفته للحل؟
كيف بحث تشيخوف الموضوع؟
في سياق إعداده للرحلة الى ساخالين، انهمك تشيخوف في قراءة كمّ هائل من المصادر المتوفرة حول الوضع في تلك الجزيرة. في رسالة الى شقيقه ألكسندر مؤرخة في ٢٥ فبراير ١٨٩ يشتكي تشيخوف من أن “مقالات الجرائد إما مكتوبة من أشخاص لم يزوروا ساخالين ولايفقهون شيئا في شؤونها، وإما من قبل أشخاص استثمروا رأس مالهم في مشاريع في الجزيرة، ويسعون لتبرئة أنفسهم مما يحصل هناك. وكلا الطرفين يساهمان في التعتيم على حقيقة الوضع”. كان تشيخوف غاضباً وعازماً في نفس الوقت على كشف الحقيقة، وهذا ما شكل دافعه القوي لزيارة الجزيرة وتقصي الوضع ميدانيا هناك. في رسالة الي ناشره “سوفرين” ( ٩ مارس ١٨٩٠) يصل الأمر بتشيخوف حدّ مطالبة الروس بالحج الي ساخالين للتكفير عن ذنوبهم التي إرتكبوها بحق الآلاف من المساجين هناك، ويذكر أن ساخالين هي “بقعة الآلام التي لاتحتمل ولا يطيقها إلا إنسان حرّ مرغم بالإكراه.. دفعنا إلى التفسخ في السجون ملايين الأشخاص. دفعناهم الى التفسخ عبثاً، من دون تفكير وبكل وحشية.”
مرحلة الإعداد الفكرية التي خاضها تشيخوف تميزت بإتساع نطاق مايقرأه: مذكرات الرحالة، تقارير حكومية، دراسات اقتصادية، كتب جغرافية وتاريخية واثنوغرافية وغيرها. كان مهتما بفهم “السياق” العام والتاريخي للموضوع الذي سيبحثه، أي أنه لم يقتصر فقط على الكتب الأكاديمية ذات الاختصاص الضيق والمعمق. ولعل في ذلك يكمن أحد أهم دروس تشيخوف المعاصرة لنا في القرن الحادي والعشرين، حيث غالباً ما نقرأ دراسات وأبحاث لم يهتم كاتبوها بالسياق المجتمعي والسياسي والاقتصادي لمواضيعهم.
عندما وصل إلى ساخالين بدأ تشيخوف بالمرحلة الصعبة من سعيه نحو الحقيقة. انطلق بكل حماس في “العمل الميداني” . اتفق مع ادارة السجون هناك على طباعة عشرة آلاف بطاقة إحصائية لكل من كان يعيش في الجزيرة (جميعهم من المحكومين في جرائم جنائية، إذ لم يكن مسموحا له مقابلة المساجين السياسين البالغ عددهم حوالي الأربعين). كان يقابل يومياً ما يقارب مائة وستين سجيناً، ويدّون الملاحظات عن السخرة، وبغاء الأطفال، والجلْد. كان ينهض في الخامسة فجراً ويستمر في العمل حتى منتصف الليل. ذكر تشيخوف في إحدى رسائله أن غرضه كان إجراء المقابلات لا نتائج تلك المقابلات. لم يكن مهتماً بدقة الأرقام، بل بنوعية الحالات التي يقابلها، وحسب تعبيره فإن “الهدف الرئيسي من الإحصاء ليس نتائجه بل الانطباعات التي تولدها عملية الإحصاء نفسها”. ماذا يعني ذلك؟ يعني “أنسنة” إسلوب البحث العلمي: فمن كان يقابلهم لم يكونوا أشياء وأرقام مجردة، بل بشر لهم تاريخ وشخصية ومشاعر. كانت البطاقات الإحصائية وسيلته لفهم تنوّع الحالات الإنسانية لكل من قابلهم. وفي ذلك نرى درسا آخر لنا من أسلوب بحث تشيخوف في “ساخالين”، درس نحتاج تذكره الآن في عصر طغيان الإحصاءات المعتمدة على البيانات المخزنة رقمياً، بدون التواصل المباشر مع من يتم إحصائهم.
تشخيص تشيخوف للموضوع
يحتفظ أرشيف تشيخوف في موسكو بسبعة آلاف بطاقة من ذلك التعداد الذي قام به تشيخوف، وهي وثائق تاريخية توثق حقبة مظلمة من الاستبداد القيصري في أواخر القرن التاسع عشر. يتكشف لنا من خلال تلك البطاقات عالم السجون والمنافي بمختلف تدرجات التعاسة البشرية الموجودة في ساخالين، وكأنها درجات سلم اللون الأسود: هناك المساجين الذين لم يكملوا محكوميتهم، وهناك المنفيون المستقرين (الذين أكملوا فترة محكوميتهم ولكن يتوجب عليهم البقاء في الجزيرة)، وهناك الفلاحون المنفيون (بإمكانهم الخروج من الجزيرة ولكن عليهم البقاء في سيبريا). لا يوجد أحرار هناك بإستثناء الحرس والمسؤولين الحكوميين (ربما المسجونين في وظائفهم في الجزيرة).
يرى كثير من النقّاد أن الحالات الانسانية التي رصدها تشيخوف وهو يجري إحصائه في الجزيرة شكّلت لاحقاً نموذجا للعديد من شخصيات قصصه القصيرة، وهو ما دفع الناقد “تيم سباركس” للقول: “يمكننا أن نعتبر قصصه التي تزيد عن ستمائة قصة ملفات عن سجناء أو عمن يسجنون أنفسهم في الحب، العمل، الأبوة، السياسة.”
بعد زيارته للقرى المنتشرة من شمال الجزيرة إلى جنوبها، والتي كان يتم الترويج لها رسمياً بوصفها قرى زراعية مزدهرة، يكتب تشيخوف: “المستوطنات التي زرتها لا تشبه القرى الزراعية أبداً. سكانها عبارة عن خليط من الرعاع الروس والبولنديين والفنلنديين والجورجيين، الذين إجتمعوا ليس بمحض إرادتهم بل بالصدفة، كالناجين من سفينة محطمة.”
ما فعله تشيخوف في الواقع هو أنه كشف عبر صفحات كتابه زيف المزاعم الرسمية التي صوّرت ساخالين كأنها نموذج للاستيطان والتعمير مشابه لما حدث في استراليا وغيرها من المناطق الخاضعة للإمبراطوريات الاستعمارية آنذاك. كما بين وبموضوعية تامة أن ما يتم الترويج له للسجون والمنافي كأماكن للاصلاح والتأهيل كان مناقضا للواقع الفعلي الذي يتسم بتحطيم انسانية كل من يعيش في تلك الظروف. ففي ظل سلطة مطلقة ( العلاقة بين السجان والسجين) ، يستشري فساد وطغيان الأول، تتدهور أخلاقيات ومعنويات الثاني. وتضمحل المشاعر الانسانية عند الطرفين. تتعدد الأمثلة علي ذلك في فصول الكتاب مثل كشف الكذب والرياء لدى حاكم الجزيرة ، أو تفشي القمار والبغاء وغيرها من السلوكيات الشائنة عند المساجين.
يذكرنا ذلك بالنتيجة التي توصل لها “تزفيتان تودروف” في عمله “العيش في الظروف القصوى” الصادر في تسعينات القرن الماضي، حيث شبّه المفكر الفرنسي – البلغاري الحياة في معكسرات الاعتقال النازية بوصفها عدسة “المجهر” التي ستمكننا من رؤية سلوك وحياة الأفراد، بصورة لا يمكننا أن ندركها في ظروف المجتمع الطبيعية. يقول “تودوروف”: “لقد إنطلقت من فرضية أن الظروف القصوى تعمل بمثابة عدسة مكبرة للأمور التي تكون مخفيّة في الحياة العادية غالباً لأسباب متعلقة بإحترام المعتقدات، أو النفاق والرياء الاجتماعي. هذه الأمور المخفية تظهر الى الضوء بوضوح في ظل الظروف القصوى لمعسكرات الاعتقال.” . بمعنى أنه لفهم الإعتيادي يجب أن نبحث فيما يحدث تحت الظروف القصوى.
يبدو لنا أن مافعله تشيخوف في كتابه هو أنه عبر تسليطه الضوء علي الظلم في ساخالين، كشف ضحالة القيم السائدة في المجتمع الروسي آنذاك والتي جعلت من هذا الظلم ممكناً بالدرجة الأولى، أي بتعبير آخر استخدم ساخالين كمرآة تعكس فساد المجتمع في روسيا.
ما هي وصفة تشيخوف للحل؟
بعد ثلاثة شهور من بحثه الميداني في الجزيرة، غادرها واستغرق الأمر ثلاث سنوات ليكمل كتابه عن ساخالين . لاحقا سعى أحد أصدقاء تشيخوف للتوسط في توظيفه بمهنة أكاديمي في كلية الطب بموسكو، إلا أن محاولته بائت بالفشل بعد أن رفض عميد الكلية بإزدراء قبول كتاب “في ساخالين” كأطروحة طبية علمية.
لم يتضمن كتاب “في ساخالين” أي وصفة لعلاج المشاكل التي استعرضها الكتاب . تشيخوف كالعادة بارع في طرح المشكلة ولكنه يتجنب وصفة الحل ، وهذا ما يميز كافة كتاباته الأدبية أو ذات الطابع العلمي (ساخالين). لم يكن ثورياً راديكالياً، ولم يكن أيضاً موالياً لحكم القيصر، بل اتسمت نظرته بطابع إصلاحي مبهم. كان مثقفاً إنسانياً يعيش بين مطرقة الرقابة البوليسية الصارمة، وسندان الحركات الثورية الهائجة آنذاك. عليه أن يناور في دروب كتاباته ليصون حريته في التعبير لقول الحقيقة التي يعتقدها. لا يعني ذلك أن كتابه لم يؤثر في تغيير الواقع، بل إن نشر كتابه قد ساهم في إثارة النقاش والجدل في أوساط الرأي العام الروسي آنذاك، مما أدى إلى عدد من الإصلاحات في مجموعة من التشريعات، مثل حظر العقاب البدني للنساء في عام ١٨٩٣، ومراجعة القوانين المتعلقة بالزواج من السجناء المنفيين، إلغاء النفي مدى الحياة والأشغال الشاقة مدى الحياة في عام 1899، وحظر العقوبة البدنية وحلق رؤوس السجناء في عام ١٩٠٣ .
هناك العديد من اللوحات التشيخوفية المعبرة في ثنايا صفحات كتاب “في ساخالين”، وإحدى أكثرها دلالة برأينا تلك اللوحة الدرامية التي يصف فيها تشيخوف جولته قرب “ألكسندرفوسك”:”طقس هذه الأيام على مايرام، فالسماء صافية والهواء رائق، يشبه إلى حد كبير خريف روسيا الأوروبية. أما الأمسيات فهي رائعة: أستحضر مشاهد الغرب المشتعل بالأحمر القاني، والبحر داكن الزرقة، وبياض القمر الساطع من وراء الجبال. في مثل هذه الأمسيات يطيب لي الخروج في جولات على طول الوادي الممتد من محطة البريد الى قرية نوفو ميخائيلوفكا، فالدرب هنا مستوي، وعلى جانبيه مسار لسكك الحديد وأعمدة التلغراف. كلما ابتعدنا عن ألكسندروفسك، أصبح الوادي ضيقاً وبدت بعض الأشجار كأنها نباتات إستوائية، وتزداد عتمة المكان بفعل التلال المظلمة المنتشرة في جميع الجوانب. من على بعد يمكن رؤية ضوء من حريق في أحد الغابات. فجأة يتبدى لي منظر يفوق الخيال: على منصة صغيرة لمحطة القطار يتكئ سجين على عمود مرتدياً ملابس بيضاء بالكامل.”
هكذا يدهشنا تشيخوف كعادته، بتلميحاته ذات المغزى العميق: أمسية جميلة تدعونا للتأمل، ولقطة لسجين وحيد في ملابس بيضاء: هل كان بريئا يلبس كفنه؟