كثيرا ما ألحُّ على إحدى صديقاتي أن تكتب وتصدر عملا جديدا بعد غياب دام أكثر من إثنتي عشرة سنة، ولأنّنها ربّما تعبت من الشّرح وتبرير غيابها وكثرة انشغالاتها، أهدتني في آخر لقاء لنا كتابا فاجأني بعنوان “صنعة الكتابة” للكاتب ف.سكوت فيتزجيرالد (صاحب رواية عاتسبي العظيم) ترجمة: جوهر عبد المولى، صادر عن منشورات حياة.
الكتاب مقسّم إلى عشرة فصول، يسبقها تمهيد من أربع صفحات، ومقدّمة من ثلاث صفحات، لكن الجواب على سؤال كان في أول صفحة، وقد صدمني وآلمني في الآن نفسه: “قصّة حياتي هي الصّراع بين رغبتي الجارفة في الكتابة ومجموعة من الظروف التي كانت عازمة على أن تحول بيني وبينها” مع الإشارة إلى أن هذا الكلام ورد في تصريح للكاتب في حوار لمجلّة “ذا ساتردي إيفنينغ بوست” The Saturday Evening Post بعد النجاح الكبير الذي حقّقته روايته الأولى This side of Paradise العام 1920.
وقد أشرت في مقالات سابقة وبشكل مقتضب وعابر إلى معاناة فيتزجيرالد مع زوجته زلدا التي امتصّت طاقته بتقلباتها المرضية، لكني لم أنتبه إلى العمر المهدور الذي كرّسه لها من أجل تغطية تكاليف علاجها وإهماله لموهبته. كانت الخيارات أمامه صعبة هو الذي امتاز بقلب عاشق وإحساس مرهف وضمير مستيقظ طيلة الوقت.
اختلفت حياته عن حياة همينغواي الذي أقام علاقات عديدة مع نساء مختلفات، وتنقل من بلد إلى آخر، وغامر بإقحام نفسه في حروب كمراسل وهي التجربة التي ظلّ تأثيرها السلبي مستمرا عليه حتى بلغ نقطة الصفر بنفسه وأطلق رصاصة الرحمة على دماغه المضطرب. لم ينل فيتزجيرالد جائزة نوبل، ولم يبلغ شهرة همينغواي، إلاّ أنّه كان قريبا من قرّائه دون عنجهية، حتى لُقِّب ب “المعلِّم الماهر” كونه كان يجد متعة كبيرة في عرض وشرح ونقاش قناعاته الأدبية.
“لم يشعر فيتزجيرالد بالغيرة تجاه كبار الأدباء، وظلّ منغمسا في عالم الكلمات” وترك رسائل كثيرة كتبها لابنته سكوتي كما ترك أثره البالغ في الأجيال التي أتت بعده لأنّه اهتم دائما باليافعين، وبالأجيال القادمة كما ورد في التمهيد الذي كتبه تشارلز سكربنر الثالث حفيد سكربنر المؤسس لشركة التي تحمل إسمه، والذي يعمل حاليا مؤرِّخا ومحاضرا وكاتبا ويعيش في مدينة نيويورك.
في مقدمة الكتاب يًوصف فيتزجيرالد أنّه يحب إرشاد الآخرين “كان بداخله شعاعُ المعلِّم”. وسنفهم بعد هذه الجملة العميقة بسهولة حين ننهي قراءة هذا الكتيِّب الصغير الماتع (130 صفحة من القطع الوسط).
يضعنا مثلا أمام قاعدة ذهبية حين تحدّث عن رواية كونراد “زنجيُّ سفينة نرسيس” تقول: “أهم عنصر في العمل الأدبي هو أن تكون ردّة الفعل تجاهه عميقة وذات نَفَسٍ طويل”، ينبّهنا الكاتب إلى أهمية القارئ قبل ظهور ما سُمي بمدرسة كونستانس الألمانية التي اهتمت بجماليات التلقي، وبعلاقة دلالة النص الأدبي بالقارئ، يذكر فيتزجيرالد ذلك بوضوح المتنبئ بمستقبل الأدب حين تحدّث عن روايته “رقيقٌ هو الليل” قائلا: “ليست ذات طابع مؤثر الآن، أعتقد أنني سأكون أكثر سعادة إذا ما ظهر هذا الأثر بعد مضي وقت طويل، أي بعد أن يكون القارئ قد نسي إسم المؤلّف”. وهنا أعتقد تكمن عبقرية هذا الكاتب الذي حارب الظروف وترك أعمالا صنّفته ضمن عظماء الكتَّاب في العالم.
هذه المعلومات القيّمة وغيرها ذُكِرت في كتاب رسائل ف. سكوت فيتزجيرالد الذي نشر بعد ثمانية وعشرين عاما بعد وفاته، بعد أن جمعها وحرّرها آندرو تورنبُل. وهي معلومات تبين معدن الرّجل الفريد وخلفيته الثقافية الثرية، وتميزه في سلك طريق مختلف لترميم نفسه بالكتابة. فقد كانت داءَه ودواءَه في الوقت نفسه، وكانت ملاذه الوحيد حين تنهار زلدا وتدخله معها إلى دوّامتها العاصفة فتنهكه لدرجة أنها توصله إلى بوابة الجحيم وتتركه هناك.
الخلاصة أن فيتزجيرالد كتب الكثير من الرسائل لأصدقاء له من العائلة الأدبية كما يسميها، وفيها الكثير من النّظري الذي يحتاجه كل كاتب مبتدئ يرغب في بدء مشواره الأدبي أو النقدي. صحيح أن هذا الكتاب الذي بين أيدينا يضمُّ مقاطع صغيرة منتقاة بدقة من رسائل طويلة، وفقرات من نصوصه الروائية لكنها زبدة أفكار الكاتب، الحاملة لأغلب رؤاه للعمل الإبداعي الأدبي.
وأيضا يختصر لنا بشكل صورة كاتب مشبّع بالثقافة الأمريكية المنعكسة في لغته. خارج الرومانسيات التي تعوّدناها يصف لنا الكتابة كالتالي: “صنعة مريعة تقتضي كثرة الجلوس والحرمان من النوم في الليل وعدم الرِّضا الذي لا نهاية له”. وفي موضع آخر يقول لإنّ “كلّ كتابة جيدة هي تماما كأن تحبس أنفاسك وأنت تسبح تحت الماء”.
من المستحسن هنا قراءة الفصل كاملا، عن الدوافع التي جعلته يتجه للكتابة خاصة حين اصطدم بمدرّب لم يفهم لماذا يكرهه رغم شطارته في لعبة كرة القدم الأمريكية، وتهميش هذا المدرّب له هو ما جعله يكتب قصيدة ستكون أول نص يرفعه ويجعله ذا شأن. وقد قادته هذه التجربة المبكّرة إلى قاعدة أخرى ذهبية في حياته، “إذا لم تكن لديك القدرة على تأدية دورك من خلال الممارسة الفعلية، لا بدّ أن تستطيع على الأقل أن تكتب عن التجربة”.
يضع الكاتب مجموعة من مفاتيح الكتابة أمامنا دون ضغينة أو حقد أو غيرة في أن يأخذ قلم شاب مكانه، يشارك خلاصة تجربته الإنسانية والإبداعية مع قرائه ببذخ لا مثيل له. يسمي من أثّروا فيه وقادوه إلى غرفة الكتابة مخدّرا بكلماتهم، ولا يرى في ذلك تقليلا من قيمته. الرّجل عشق لعبة الكلمات منذ نعومة أظافره وقد قادته قراءاته إلى محطّة قصدها بقلبه وعقله معا. لا يخفي مثلا تأثره بالكاتب هْيُو والْبول ليس لأنه كاتب جيد، بل لأنّه كاتب سيء، يدهشنا حين يرى نقطة النور تنبعث من رواية قرأها لها وهو مسافر من نيويورك إلى واشنطن، وبعد مئة صفحة قال لنفسه إذا كان هيو والبول تجرّأ على الكتابة وبدأ يحقق انتشارا آنذاك، فحتما سيكون له شأن آخر إن هو كتب!
وكان ذلك دافعا جيدا له ليقرّر أن يصبح كاتبا. ولعلّ رؤيته الإيجابية هذه للأمر تجعلنا نتذكّر حجم اليأس والإحباط اللذين يصيبان البعض حين يصادفون نصوصا سيئة سريعة الانتشار محققة مدخولا جيدا لكُتّابها، فيتوقفون عند نقطة انتقادهم دون المضي قدما في كتابة تجاربهم الخاصّة كإثبات على أنهم الأفضل.
في الفصل الخامس يتحدث الكاتب عن تقنية بناء شخصياته، وفي الفصل الذي تلاه قدّم مجموعة مهمة من النّصائح المهمة للكُتّاب، وخصّص السابع للنّقد والنُّقّاد، مع ملاحظة أنه يعتبر ناقدا فذًّا، حتى لنفسه، ولم يكن بحاجة لناقد يضع يده على نقاط ضعفه، كذلك لديه نظرة حادّة فيما يخص مستقبل الكُتّاب، لقد كتب لناشره ماكسويل بيركنز على سبيل المثال: “أكتب إليك لأخبرك عن رجل أمريكي يدعى إرنست همنغواي يعيش في باريس ويكتب لصالح ترانس أتلانتيك ريفيو. لديه مستقبل باهر، لو كنت مكانك لزرته على الفور. إنه الرّجل المنشود”.
يعرّج في الفصلين الأخيرين على عالم النشر وكواليسه من تحرير وطريقة تسويق تقنع الكاتب قبل السوق التي يدخل فيها الكتاب مجرّدا من كل أسلحته إلاّ من سلاح لغته ومحتواه. كان فيتزجيرالد من دعاة ترك سمعة الكتاب تنمو نموًّا طبيعيا بعيدا عن الدّعاية الصاخبة.
في الفصل الأخير وهو الأكثر إمتاعا لدرجة تمنيت فيها لو أن حجم الكتاب كان أكبر بقليل، سيمنحنا الكاتب فرصة التعرّف عليه أكثر، وعن مسيرته ككاتب عرف الرّفض وكل أنواع العراقيل التي حالت بينه وبين التفرّغ للكتابة.
ما يدهشنا في آخر هذا الكتاب أيضا هو أن سعر القصّة مذيّلة باسم فيتزجيرالد بلغ ال 2000 دولار في عشرينيات القرن الماضي وهذا ما يحزننا ككتّاب في العالم العربي بحيث أن الكاتب يسعى لنشر قصصه ونصوصه دون مقابل، وهذا ما جعل النصوص الرديئة والجيدة تتساوى في سعرها البخس، ولعلّ هذا هو السر وراء حياة الأدباء البائسة إلاّ ما ندر، من الذين تغدق عليهم بعض الجهات هبات شخصية أكثر منها مكافآت أدبية.
الكتاب أكثر من ممتع، وأكثر من مؤثّر، وأعتقد أن صدوره باللغة العربية جاء في وقته تماما، عسى أن يزرع الأمل في قلوب المبدعين الحقيقيين وهم يواجهون جحافل من المتطفلين على الكتابة والمتألقين عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات الإلكترونية الجديدة سارقين الأضواء ممن يستحقها!