ضد الدقة في جماليات الخطأ

0
23

الشعر العَرَضي في المصحح اللغوي الأوتوماتيكي

كلما كان الخطأ كبيراً أو فاحشاً بدا كأنه صواب كامل” 

قاسم حداد

كم مرة أغضبك المصحح اللغوي الأوتوماتيكي في هاتفك عندما أردت أن تكتب رسالة لصديق تعزيه، و بعد أن ضغطت على زر إرسال اكتشفت مرعوبا أنك كتبت “لكم العراء” بدلا من “لكم العزاء!! أو في تهنئة بالعيد كتبت “غير مبارك” بدلا من “عيد مبارك”.؟ أو عندما أردت أن تكرم شخصا بعبارة “الله لا يهينك” كتب المصحح “الله لا يهنيك”؟!! هي أخطاء كما ترى مزعجة بل قاتلة أحيانا. 

ومن الطرائف وربما الفظائع التي تذكر في كوارث لغوية غير مقصودة ما نقل عن رئيس تحرير جريدة مصرية حين جاءته في ساعة متأخرة من الليل إلى منزله عائلة توفي عميدها وتريد نشر تعزية في الجريدة في صباح اليوم التالي فما كان منه إلا أن دوّن على ورقة نص التعزية التي يأمر بنشرها مذيِّلا إياها بعبارة: “إذا كان هناك مجال” ,وكان يقصد إذا وجد مجال للنشر، وقال اذهبوا بها حالا إلى مقر الجريدة لإدراجها قبل الطبع، فنزلت التعزية في صباح اليوم التالي مذيلة بعبارة: “أسكنه الله فسيح جناته، إذا كان هناك مجال” !!

غير أن هذا المقال بجريدة الغارديان The Guardian والذي يمثل ما يمكن وصفه بأنه مرافعة ضد الدقة Anti Precision له رأي آخر. لا تنكر الكاتبة كون الأخطاء في المصحح الأوتوماتيكي مزعجة ومثيرة للغضب لكن تقول لها أيضا جانبها الإيجابي. إن لعدم الدقة أيضا جمال تبدعه المصادفة بشكل غير مقصود و للخطأ اللغوي انحرافات قد تتحفك بمعنى غير مسبوق كأنه الشعر.

هذا ما يحدث مثلا حين تريد أن تكتب “أراك قريبا” فيكتب المصحح “أريدك قريبا مني” مستبدلا الفعل “أراك” بـ “أريدك” ومضيفا كلمة أخرى على الجملة. لو أنت أرسلت مثل هذه العبارة إلى امرأة جميلة قد تمثل إحراجا، لكنها في ذاتها رائعة كعبارة صداقة تخاطب بها شخصا حميما. ومثل ذلك حين تريد أن تخاطب مريضا “صحتك أغلى ما لدينا” فيكتب المصحح “ضحكتك” بدلاً من “صحتك” وتضغط أنت زر “إرسال” فتصبح العبارة “ضحكتك أغلى ما لدينا”، وهي أكثر شاعرية وتحفيزا مما أردت أنت إرساله في الأصل.  

هل اللغة إذن كائن بذاته، مستقل عن قصدية القول؟، وهل يكون كلامٌ قيل عن غير قصد أجمل من قول خططنا له ودربنا حنجرتنا على النطق به، وأقلامنا على كتابته؟، وماذا عن الفجوة بين المسرود والمقصود من القول، هل من صالح المعنى أن نردم هذه الفجوة أم نتركها لتفاجئنا بما في اللغة من كنوز مخفية يكشف عنها لحن القول وخطأ التعبير؟ 

إن المصحح اللغوي الأوتوماتيكي يعتمد على ذاكرة تحتفظ بالكلمات التي كتبتها أنت سابقا ويسارع في صف الجملة كما يقترحها هو بناء على هذه الذاكرة. كما أن لديه هو ذاته كجهاز تصحيح عبارات دارجة مستخدمة لدى العموم حتى لو لم تكن أنت استخدمتها من قبل، فمثلا حين تكتب كلمة “صباح” يضيف هو كلمة “الخير” أو كلمة “جديد” أو كلمة “غائم. وبرغم أن البلاغة عند العرب يتوقف حصولها على عدم الخطأ في إحراز المعنى المقصود، والمنطق عند العرب تعريفه أنه “آلة قانونية أو قاعدية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ”، فإن للخطأ جماليات غير محسوبة وغير مخطط لها. 

هذا ما يسميه المقال المنشور في جريدة الغارديان The Guardian بتاريخ 07 يونيو 2023 لكاتبته كوكو خان Coco Khan وهي كاتبة بالتعاقد في الجريدة بـ “الشعر العَرضيِ Accidental Poetry” في المصحح اللغوي الأوتوماتيكي.

تقول الكاتبة كوكو خان: “برغم أن أخطاء المصحح الأوتوماتيكي قد تكون مزعجة بل مثيرة للغضب، إلا أننا للأسف سوف نفقد الكثير من جماليات الشعر العَرَضي Accidental Poetry  إذا قمنا بتحسين المصحح الأوتوماتيكي بحسب ما تنوي شركة Apple أبل فعله في نظامها التشغيلي الجديد iOS 17 الذي سيصدر في يوليو 2023 عبر استخدام الذكاء الاصطناعي لجعل المصحح الأوتوماتيكي أكثر دقة في رصد أخطاء الكلام.

تضيف الكاتبة في مقالها: “لقد كان المصحح الأوتوماتيكي بأخطائه منتجا للشعر العَرَضي Accidental Poetry لعقد من الزمان، غير أننا سنفقد ذلك مع مزيد من التطوير في الذكاء الاصطناعي بحيث سوف يكون المصحح الأتوماتيكي أدق قدرة على التنبؤ بما يريد مستخدم جهاز الآيفون قوله من كلام بما في ذلك حتى الشتائم أو الكلمات النابية، كما تشير إلى ما صرح به نائب الرئيس للبرمجيات في شركة أبل عن جيل جديد من نظام التشغيل لأجهزة الآيفون هو نظام   iOS 17 – Iphone Operating System   والذي سيكون أكثر قدرة على ردم الفجوة بين ما نقول وما كنا نريد أن نقول بحسب مضمون المقال. 

وبرغم أن الكاتبة تلمح إلى أن تصريح المسؤول الكبير في شركة أبل يقول إن النظام التشغيلي المطوّر سيضمن للمستخدمين أن الشتائم ستصبح من الآن فصاعدا أكثر سهولة للتخزين في ذاكرة المصحح الأوتوماتيكي والذي كان كما يبدو لا يحتفظ بكلمات نابية من هذا النوع في السابق، فإن الكاتبة كوكو خان تنعى فقدان الشعر التلقائي أو العَرَضي الذي كانت تنتجه الفجوة بين المقول وبين المراد قوله. 

تُسارع الكاتبة إلى تصحيح الانطباع لأول وهلة حول مقالها: “إنني لا أريد أن أقلل من قيمة وضع كل كلمة في مكانها الصحيح بما في ذلك لو كانت لعنا أو شتيمة، ولا أقول أنني لا أتفهم بديهيا أن الآلة صُنعت لتفعل ما يريد الإنسان فعله وليس العكس، ولا أنني لم أنزعج ولم أغضب وأنا أرى كلمة Brexit والتي تعني خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تتحول أمام عيني بعد أن ضغطت زر الإرسال إلى كلمة  Breakfast   والتي تعني إفطار. كلا، ليس الأمر كذلك، بالطبع انزعجت كثيرا من ذلك. ولكن أريد القول إن بعضا من أفضل الأشياء في حياتنا يأتي من الأخطاء. هنا بالتحديد نجد الأكاذيب السحرية في المصحح الأوتوماتيكي والتي تأتي أحيانا لنا بالحقائق الصحيحة على غير ما نتوقع. لقد كتبتُ ذات مرة عن أخذ مشروب  Aperol  بعد العمل وهو كوكتيل فواكه منعش، فحولها المصحح الأوتوماتيكي إلى A    peril  بعد العمل. بذلك أصبحت الجملة: لدي خطر أو لدي مسؤولية أو مخاطرة أو مجازفة بعد العمل.  

لعل من أجمل التجارب احتفاء بالخطأ كتابات الشاعر قاسم حداد فأحد عناوين دواوينه هو (جنة الأخطاء). ويكتب قاسم في عناوين قصائده (أخطاء الليل، أخطاء الموج، أخطاء الحقل). يميز قاسم حداد بين الهذر والهذيان في هذا المقطع الملهم الذي لعله يتضافر مع كاتبة مقال الغارديان كوكو خان وهي تنعى فقدان إمكانية الإبداع في أخطاء المصحح الأوتوماتيكي حين يتم تفعيل النظام التشغيلي الجديد iOS17:  “إن الهذر مجرداً، هو فعل غير شعري. ولكن بوسع الشاعر الموهوب، وهو يمتلك المعرفة والخبرة، أن يجعل من صنيعه الشعري، مادة يحقق فيها درجة الهذيان الإبداعي الذي يأخذ النص إلى لحظة الشعر. لا نستطيع أن نطلق أحكاماً عامة صدوراً عن محاولات تفشل هنا وتتعثر هناك وتنجح أحيانا. كل ما في الحياة يمكن أن يكون شعرياً إذا تناولته موهبة تعي ما تفعل. وهاجس التجريب ليس جديداً في حقل الإبداع، إنه حق مشروع وجميل كلما تيسرت له الشروط الشعرية. حتى الهذيان (لكي أميزه عن الهذر) يمكن أن يكون شكلاً من أشكال الذهاب إل] الشعر. ألم يقل السابقون عن المهلهل أنه بالغ في الهذيان حتى قال شعراً؟. في ظني – الكلام لقاسم – أن الشعر لا يتطور ولا تتبلور رؤاه ونصوصه إلا بحرية التجريب وإدراك جماليات اللغة وملامسة طاقاتها اللامحدودة في التعبير. نحن كائنات لغوية لا تتحقق إلا بما تنتجه من الألفاظ هذه التي قد تصبح سلبية ليست في الشعر الراهن فحسب، ولكن في أي شعر على الإطلاق، إذا هي كفّت عن صدورها من حساسية شعرية واعية. اللغة هي خبرة الإنسانية كاملة ممتزجة بشخص محدد في لحظة محددة هي النص الآن”

وأجدني أخيرا أكرر بلغتي وتجربتي الخاصة رأي كوكو خان في جريدة الغارديان: “ليس أني لم أغضب حين رأيت أمام عيني دعوتي الأصدقاء إلى الحوار تتحول أمام عيني إلى “تعالوا إلى الخوار” وهي كلمة تعني صوت الأبقار ما يعني أنني أسخر من الندوة المعنية، ولكني أيضا أراهن مثل الكاتبة ومثل قاسم على أن في الأخطاء تحفٌ لا تقدر بثمن. تحفٌ تصوغها المسافة بين ما ننوي وما نروي.

تُرى ألهذا كانت كلمة (قصد) إعادة ترتيب لكلمة (صدق) وكأن بينهما وشيجة ترادف وتخالف في الوقت نفسه؟ كأن الصدق في العفوي والتجريبي أكثر مما هو في القصد”.

رابط مقال الكاتبة بجريدة الغارديان: 7 يونيو 2023:

Autocorrect can be ‘ducking’ annoying, but we’ll miss its accidental poetry when it’s gone | Coco Khan | The Guardian