قفز إلى الواجهة مؤخراً أكثر من ناقوس انذار عبر مؤشرات ثلاثة، عن العبودية أولاً، والعنصرية ثانياً، والبؤس ثالثاً، وكل هذه المؤشرات تعبر عن أوضاع مزرية، حتى وإن كانت أسيرة النكران، فإنها ليست عابرة بأي حال، بل هى نتاج سنوات وسنوات من الممارسات والانتهاكات، وستظل تبقى سنوات وسنوات طالما هناك من يستفيد منها ومن مفاعيلها ويستثمرها بشكل لا يعرف المداورة، بل ويفتح لها آفاق جديدة تواكب التطورات والمتغيرات وإيقاع المصالح!
عن العبودية نبدأ بالتقرير الصادم بكل معنى الكلمة وعنوانه “مؤشر الرق العالمى لعام
2023 “، والصادر مؤخراً كشف بأن عدد الأشخاص الذين وقعوا ضحايا للعبودية الحديثة قد ارتفع بشكل كبير فى السنوات الأخيرة، وأن كلاً من كوريا الشمالية وإريتريا وموريتانيا تسجل أعلى معدلات العبودية فى العالم، وأن نحو 50 مليون آدمي فى جميع أنحاء العالم محاصرون بما أطلق عليه بالعبودية الحديثة، بزيادة 10 ملايين شخص بعد خمس سنوات مضت، من ضمنهم 28 مليون إنسان يعانون من العمالة القسرية، و22 مليوناً بزواج قسري أو استعبادي!
ليس ذلك فقط ما صُنف تحت بند العبودية الحديثة، فقد شمل بالإضافة إلى ذلك عبودية الدين، وعبودية الاستغلال الجنسي التجارى القسري، وتهريب البشر، وبيع واستغلال الأطفال، وتقييد كفالة حقوق العمال الأجانب، والأمر السيئ حقاً ما ذهبت إليه الأمم المتحدة فى تقرير لها نشر مؤخراً من أن العبودية الحديثة توسعت فى جميع أنحاء العالم، وإن تضاعف الأزمات فى السنوات الأخيرة من وباء كورونا، ونزاعات مسلحة، وتغيّر المناخ، الأمر الذى تسبب فى اضطرابات غير مسبوقة فى التوظيف والتعليم وتفاقم الفقر المدقع واناس تعيش فى حالة مزرية، وتكاثر الهجرة القسرية والخطيرة وتفاقم حالات الاحتجاز والإتجار فى المهاجرين، وانفجار حالات العنف القائم على النوع الاجتماعي، وكلها عوامل تزيد من مخاطر العبودية الحديثة..!
أما العنصرية فقد وجدناها تتنوع وتتشعب وتأخذ أوجه مختلفة فى العديد من المجتمعات والجماعات والبلدان، عنصرية انغرست فى البعض من باب اللون أو القومية أو القبيلة أو العشيرة أو الدين أو الطائفة أو المذهب، وربما كان أحد أبرز صورها فى الآونة الأخيرة ما تعرض له مؤخراً اللاعب البرازيلى فينسيوس جونيور جناح فريق ريال مدريد خلال مباراة مع فريق آخر من عبارات شنيعة مليئة بالحقد والكراهية والعنصرية بسبب لون بشرته من جمهور فريق فالنسيا المنافس، ورغم أن هذه ليست المرة الأولى التى توجه فيها مثل تلك العبارات إلى لاعبين فى نوادي وفرق أخرى فى مباريات أقيمت فى بلدان عديدة، فإنه لم يكن مستغرباً أن تقابل هذه الأفعال أينما حصلت، ومن اي جهة صدرت، وفى أي مناسبة رياضية أو غير رياضية باستهجان وإدانة على نطاق واسع على أكثر من مستوى.
ربما يكون أحدث شكل من أشكال العنصرية ذلك المشروع الذى كشفت عنه فى مؤتمر صحفي عضو مجلس ادارة منظمة العمل الدولية ممثلة غرفة تجارة وصناعة البحرين، والذى تقدّم به مدير المنظمة الدولية، فعلى ذمتها فان هذا المشروع يتصل بتعريف ومفهوم الانسان العامل وتصنيفه بحسب اللون او الجنس ، وقالت ان هذا المشروع قوبل بتوجه 70 دولة لرفضه اعتبرته بأنه يحرّف المنظمة الدولية عن مسؤولياتها ويتجه بها نحو السياسة العنصرية، أسوأ ما يمكن أن يعنيه ذلك أن هناك من يدفع لخلط الأوراق بين ماهو انساني وما هو عنصرى، فهل هناك أسوأ من ذلك ..؟!
إلى جانب ذلك فإن جرائم تمييز وعنصرية بصور أخرى عديدة حدثت وتحدث فى دول أوروبية والولايات المتحدة، وكلها نشرت ووثقت ويمكن الرجوع إليها فى أي وقت وكلها قوبلت بشكل أو بآخر بالاستهجان والرفض والإدانة، وكان من الأمور اللافتة مؤخراً حين ظهر المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية على وقع ما حدث للاعب البرازيلى ليعلن بكل وضوح “إن بلاده تدين العنصرية فى جميع أنحاء العالم، وأينما تحدث الممارسات العنصرية بما فى ذلك الرياضة”، وذهب إلى الإشادة بأي جهد يسلط الضوء على هذه الممارسات ويحاربها، وما هو لافت والذى يفرض نفسه بإلحاح أن هناك ممارسات عنصرية فجة كاملة المواصفات والأركان لا يتم التطرق إليها من قبل تلك الدولة التى ترفض العنصرية، فى المقدمة منها الممارسات التى ترتكبها قوات الإحتلال الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، وما تجسده دولة الاحتلال من عدوانية وكراهية واستهتار بالقوانين والقيم وإمعان فى اقتلاع الفلسطينى من أرضه وإلغاء هويته وحرمانه من أبسط حقوق الانسان فى وطنه رغم قوة الحق، وقوّة الشرعية، وقوّة عدالة القضية الفلسطينية، وبالرغم من ذلك تظل الولايات المتحدة وغيرها من الدول تسمعنا الكثير من الطروحات والأقاويل والمزاعم والشعارات الداعمة لحقوق الإنسان ولكنها فى الوقت ذاته تستثنى ما ترتكبه قوات الاحتلال الاسرائيلي من جرائم متماشية، وتتجاهل الحقوق العادلة للشعب الفلسطينى، بل وصل الأمر إلى الى استخدام حق النقض “الفيتو” فى مجلس الأمن الدولى لتعطيل قرارات دولية تدين عنصرية وجرائم الكيان الصهيوني، وكأن هناك مفهوم خاص من قبل امريكا ومن يدور فى فلكها للعنصرية، تطبقه كما تشاء، وكيفما تشاء، وتحت أي عنوان أو ذريعة أو مصلحة تشاء!
بالنسبة للبؤس استدعى الحديث عنه مؤشر البؤس العالمى، وهو مؤشر يعتمد على خوارزمية تمنح كل دولة درجة بناءً على نسب البطالة والتضخم ومعدلات الاقراض المصرفي، ومعدلات الفائدة ونمو الناتج المحلى الاجمالي، واحوال الشعب ونمط حياته ، وهى المعدلات التى لها حضور متفاوت بين دولة عربية واخرى، غير أن هناك قواسم مشتركة مزمنة بينها أبرزها البطالة، ازدياد معدلات التضخم، الفقر، وغياب الديمقراطية، القمع ومصادرة الحريات، والتضييق على المجتمع المدنى وتغييب دوره، الفساد الذى تطوّر وتغلغل وأصبح نمطاً لإدارة مفاصل بعض الدول، ذلك وغيره ادى إلى حالة “تبئيس” تطل بكل وبأوضح تجلياتها على واقع هذه الشعوب وغيرها من شعوب ليس بالضرورة أن تكون مدرجة فى ذلك المؤشر حتى الآن على الأقل!
المؤشر الذى يصدره سنوياً استاذ الاقتصاد التطبيقى فى جامعة جون هوبكنز ستيف نانكي يصنف سنوياً ما يقرب 160 دولة فى قائمة الدول البائسة، وظلت زيمبابوي الدولة الأكثر بؤساً فى العالم لمدة ثلاث سنوات متتالية، ما يهمنا هو ما يخص الدول العربية فعلى ذمة المؤشر فقد كتب على اربع دول عربية ان تكون ضمن أول سبع دول فى مؤشر البؤس فى العالم، وهى سوريا ولبنان والسودان واليمن، أي الدول الغارقة فى نزاعات وحروب وأوضاع تعيسة وراءها من يصنعها ويهندسها ويعيد انتاجها ويفلسفها ويوزعها ويستثمر مردوداتها بكلف دموية مثيرة للهلع جعلت شعوباً فى حالة مزرية إلى درجة أصبحت وكأنها تودع الحياة وتنخرط فى صناعة جنازتها، وكأن هناك من يقول لهذه الشعوب: لم يبق لكم سوى اليأس وعليكم التأقلم معه بقية حياتكم!
امام ذلك الواقع الذى ارتسمت معالمه بشكل مزري، والتنافس الحاصل فى ممارسات مهما تزينت هى بالنهاية أشكال من العبودية والعنصرية والدكتاتورية والبؤس والمتاجرة بالصراعات التى صارت بالنسبة للبعض أكثر ربحاً من مصالح السلام والاستقرار، والضحية شعوب وصل حالها وللأسف الشديد إلى درجة تجد نفسها وقد أصبحت أمام آفاق مسدودة وتنافسات بين السيئ والأسوأ، بين الأمر شديد الوطأة وباهظ الكلفة على كل الصعد، بين طغيان وفساد وهيمنة وتبعية ومهانة وإفقار وانتهاك الكرامات والحقوق، وقمة المأساة حين نعجز حتى عن الاعتراف بهذا الواقع، وحين لا يكون الإنسان قادراً على الكلام والفعل ..!
بقى سؤال ذى مغزى: هل تذكرون الربيع العربي ومآلات هذا الربيع العربي، وتلك الشعارت الواضحة “الحرية والكرامة”، وهل تذكرون كيف رست ثورات هذا الربيع على نهايات مبعثرة بشكل متقن ومدروس أدت الى حال فيها الكثير من السوء والظلم غير المبطن، وما على الشعوب إلا أن تبقي الأصوات الرافضة على الدوام لكل اشكال العنصرية والعبودية واليأس والمساس بحقوق الإنسان التى ترتفع الصيحات هنا وهناك وهنالك باحترامها والإلتزام بمقتضياتها، ومن المضحك والمبكي فى آن واحد أنه فى الوقت الذى ترتفع فيه هذه الصيحات تزداد انتهاكات حقوق الانسان فى العديد من الدول، وبعد أكثر من 75 عاماً على اقرار الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، لا تزال مكافحة العنصرية والتمييز العنصرى ضرورة ملحة، ولا تزال العبودية تطل بأكثر من وجه، ولا يزال البؤس حاضراً بأنيابه، ولا يزال هناك من يسعى إلى استحداث صراعات توجه الناس فى الاتجاهات المغايرة لمصلحة أوطانهم ومجتمعاتهم ولا تجعلهم يسلكون طريق الصواب!
من المؤكد أنه ليس أمام الشعوب إلا أن تكون اصواتها جهورة مدوية وفاعلة امام الواقع المتردي فى سبيل بلوغ واقع تمارس فيه الحقوق والحريات على أكمل وجه دون منّة او ارتهان من حاكم او نظام او حكومة، واقع يذهب بالجميع نحو التغيير المنشود فى الظروف، وفى المناخ، وفى الآفاق أيضاً، تغيير ينقل هذه الشعوب من خانة الرعايا إلى خانة المواطنين، وهذا يتطلب إدراكاً ووعياً وعملاً يحول دون استرسال اليأس فى النفوس دون رادع، وكم هو خطير حين يكون اليأس هو المتاح الوحيد أمام الجميع، وتبقى أحوال الناس مفتوحة على المجهول.