إن موضوع الترجمة الأدبية جد شائك، نظرا لارتباطه بحقول معرفية لها علاقة بالأسلوبية والشعرية والجمالية، وغيرها من الحقول التي تهتم وتهم الخطاب الأدبي. هذا الخطاب الذي يتميز بماهيته المتفردة عن باقي الخطابات الخلو من الأدبية والشعرية وجمالية الأسلوب ..
ويمكن للنظرية الشعرية في الترجمة الأدبية أن تستوعب كل المتغيرات دون أن تدين الفعل، نظراً لغياب قاعدة هي بمثابة النهج الذي يجب التحرك داخله. فلائحة السوانح، تكسر القاعدة وتسمح لنا بالتصرف بحرية تحت طائلة الخلق والابتكار مع المحافظة على السياقات النسقية طبعاً.
وفي المقابل تهدينا الترجمة الأدبية إبداعا جديدا يحل محل الإبداع القديم بنفس الوضع الاعتباري. ليس النص الأدبي بالإطار الصلب المحدد لعدم قبول التغيرات، بل هو أرضية قابلة للتخصيب بحكم طبيعته. وهذا ما يجعل منه حقلاً خصباً لتوليد الدلالات وخلق مستويات الإبداع.
فحالة التواطؤ التي تخلفها الترجمة، سببها الانزياحات المتكررة التي تنتجها الترجمة في كل مرة يتم فيها نقل نص من النصوص الأدبية إلى لغة مستقبلة، ليس هذا فقط، بل تساعد القراءات المتكررة على إعادة اكتشاف الكاتب لذاته ولإبداعه بصفته طرفا رئيسيا في العملية، ومكونا أساسيا من هذا الإبداع.
هكذا إذن، وليس بمحض الصدفة، تصبح الترجمة الأدبية كتابة تقف ندا لند الكتابة في نصها الأصلي. فهي تحيط نفسها بالمقومات التي تحافظ لها على مشروعية الوجود، وتعاقب الاستمرار لغوياً وأسلوبيا وإبداعياً.
وتحت عنوان “الكتابة في لغة أخرى كتابة أخرى”، يشبه الباحث المغربي في شؤون الترجمة د. عبد السلام بنعبد العالي، طبيعة النص بترجماته، بالطبيعة التي يسود فيها الوفاء والألفة، بالرغم مما يقال في حق الترجمة من خيانة وعدم الوفاء. فالترجمة – والكلام على لسانه – تتمسك بهذا التساكن مع نسختها الأصلية.
إن الترجمة التي فيها إبداع هي فرصة ثانية لحياة النص، وكلما تمت ترجمة جديدة، كلما تجددت الدماء داخل هيكل النص الأساسي، فتنطلق روحه بكل ثقة نحو آفاق جديدة، تفكه عن عزلته وترسم له مسارا جديدا نحو المعاني والأفكار التي هي خاصيات فكرية يمكن ان تصبح قيمة مضافة لكل ثقافة تهاجر إليها، او بالأحرى تحل فيها.
إن الانفتاح على ثقافة الآخر، هو اعتقاد بوجود ذات نتقاسم معها الحق في ممارسة الحياة، ولا شك ان هذا سيبعدنا عن التقوقع والانغلاق عن كل ما هو حضاري، ويرنو بنا نحو الانفتاح والعيش المشترك. ولنا خير مثال في الحضارة الإسلامية التي جعلت لها الانفتاح محجا لثقافات كونية، قادت العالم إلى مرحلة مزدهرة من تاريخ الإنسانية.
لقد مرت الأداب الإنسانية على مر العصور بامتحانات أخلاقية عسيرة، حيث مورس على بعض الثقافات أشكال من السطو والتدمير الممنهج، ففي الغرب كانت الترجمة بابا لاستئصال بعض الثقافات من خلال الغزو العسكري لبلدانها، والقضاء على لغاتها التي حوربت في عقر دارها. ولنا خير دليل في الأدب “الفرانكوفوني” الذي ولد وترعرع في بيئة استعمارية، لكن وبفضل أقلام حنكتها التجربة والعيش على ضفاف المشترك، استطاع هذا الإبداع بفضل أنساقه الثقافية المنتفضة عن واقعها المأساوي، والمتطلعة إلى الحرية والتحديث أن تنتج لنا أجناسا أدبية تنافس الآداب العالمية في المحافل الدولية.
إن الوعي بالأنساق الثقافية يدعونا إلى صياغة مفهوم جديد عن جدلية الإبداع في الترجمة، بحكم أن العملية عملية تأثر وتأثير، وتجديد للتواصل القائم بين الثقافات، وبين شتى أنواع المعارف والخصوصيات، لهذا وكما استنتجت الدكتورة ياسمين فيدوح في كتابها “إشكالية الترجمة في الأدب المقارن” فإن الترجمة بتحقيقها النص “الهدف” من خلال النص “المصدر” تحكمها علاقة حوار؛ والنصان معا يعزز كل منهما الآخر في مسألة الاتصال الثقافي الذي يقتضي التبادل، وفي حال إجراء هذا الاتصال تكون الترجمة قد أدت دورها لبعث الفكر المستنير من أجل:
1- خلق معرفة متحررة قائمة على زرع المبادرة.
2 – بناء معرفة ثقافية جديدة تسعى إلى التطلع والاستشراف.
3 – توجيه رؤيا المعرفة العربية إلى ما هو أكثر فائدة للتنمية.