لفتتني عبارة للناقد الأدبي “لودفيج” تقول “إنه ينبغي لنا أن نستطيع التفكير فيما لا ينبغي التفكير فيه”، وهذه العبارة تلخص حيرة ومحنة من يتصدى للكتابة عن حياة رجل ملأ الحياة بحراكه وطموحاته وأحلامه، حتى ضاقت به على رحبها واتساعها، فلم يجد متسعاً أو سنة من وقت يريح فيه، أو فسحة يترجل فيها عن صلبان أحلامه وطموحاته الباهظة، ذلك هو الأديب والكاتب والشاعر والمناضل الوطني العنيد أحمد عيسى الشملان “أبو خالد”
لعل الكاتبة والرائدة الاجتماعية فوزية مطر، وهي من شاطرت أحمد ضرع الأحلام والمرارات والمكابدات، وقاسمته شظف العيش وخشونة النضال، واستطعمت رغيفه المجلل بالكرامة، والمغموس بالكد والتعب وعرق الجبين، وتجرعت سادية طرّاق الفجر وليالي الوحشة ووحوشها، لعلها الوحيدة أو هي واحدة من الرفيقات القليلات والرفاق القلة الذين عرفوا أبا خالد معرفة الواقع والحقيقة والأعماق، ووقفوا على دقائق تفاصيل هذه السيرة الحياتية الصعبة، الغنية الخصبة، متعددة الهموم والمجالات والحقول والأبعاد، والمشغولة المزدحمة حدّ الاكتناز، والتي بالكاد وسعها كتاب ينيف على ألف صفحة من الحجم الكبير.
عرفتُ أبا خالد عن قرب في منتصف التسعينيات من القرن المنصرم، بمجلس إدارة أسرة الأدباء والكتاب، وكنت أصغي إليه إصغاء الصوفي إلى معلمه ورائده الكبير، يأخذني بحديثه فأهوم، ويجنح بي الخيال، فتخطر بي الرؤى بسحبها الثقيلة الممطرة، وكنت في هذا الشطط اللاواعي وذلك التهويم التخييلي أبحث جاهداً عن صورة تتوسم أبا خالد الإنسان، وتلم ذلك الصحو البهاء الممطر أو عن إطار لتلك الصورة يزم ما يفيض به هذا المتحدث الكريم.
أي الرجالات أنت يا أبا خالد ..!؟،
أكاد لا أصدق ..!
أقمت مكتبا “للحقوق”، ثم ما لبث أن اتسع فصار بحجم الوطن الخيمة يلوذ بظلها الحفاة والرمض المتعبون، وكأنما بلسانك نطق الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف:
“تعالوا إلينا متعبين ورمَضا/ تعالوا إلينا أنه الأمل الجرح/ تعالوا وكونوا الماء يمنع نفسه/ وكونوا رماح الماء إن أورق الرمح”
يقول رفيق دربه ونضاله الكاتب الوطني الدكتور حسن مدن في تقديمه كتاب الشملان الموسوم ب “أجراس الأمل” الجزء الثاني الصادر عن مطبعة شركة الاتحاد 2002م
“أحمد ينتمي إلى قلة نادرة تجمع بين شجاعة الموقف وشجاعة الكلمة، الكلمة عنده موقف، أو كأنها تؤسس للموقف، فأحمد الشملان هو ذلك المثقف العضوي الذي كان دائما في مهب اللهب وهو يجترح إثارة الأسئلة الصعبة حتى في أزمنة الصمت”.
نلمح في قراءاته وتحليلاته الأدبية الهاجس الإنساني الوطني جلياً كشرط مبدئي، إن لم يكن ضرورة وطنية، يقول في مقال له بعنوان “غربة الحداثة” في كتابه “المحو” والكتابة الصادر عن دار الكنوز، بيروت عام 1999 ص. 146
“لم تكن مشكلة الصياغة أو الشكل الفني هي الهاجس الأوحد، وإنما الهاجس الأوحد هو المضمون، والمضمون الفاعل في التفكير الجمعي لكافة الناس، لا في تفكير المثقفين وحدهم الذين ظلوا ممتلئين حتى آخر كلمة يكتبونها بسرمدية كتاباتهم واستحالة نقضها أو الخروج عليها” .. ويلمح بعمق ودقة من يقرأ ما تحت السطور إلى انتهازية ووصولية البعض في هذه الكتابات، فكرية كانت هذه الكتابات أم قصا أم نصا أدبيا فيقول: “إن الصراعات الأدبية والفنية كانت تحكمها “الأنا” وتوجه تقلباتها وتغيراتها أكثر مما كانت تحكمها موضوعية البحث أو القصيدة أو اللوحة الفنية أو المسرحية.”
ذلك هو أحمد “ممتلئا حتى العظم” بهموم الوطن وقضاياه، في قراءاته وكتاباته وكأنما هو من أشار إليه الشاعر الجنوبي شوقي بزيع: “يصغي إلى الأمطار قبل هطولها/ وإلى القصيدة وهي تنبض في المسام”.
ثمة جانب إنساني ينبغي تأمله والوقوف عليه في هذه الشخصية الوطنية، التي قلما يجود بها الزمن الشحيح، فقد أعطى أحمد وبسخاء قلّ نظيره، كل ما يملك لوطنه ولشعبه وناسه، وقد بادله هذا الشعب الطيب البسيط عطاءه السخي الجميل عطاء بعطاء ووفاء بوفاء اعترافا بجميل عطاءاته الكبيرة.
زرت أحمد في مرضه، فرأيت على سحنته شيئا من الدموع، قلت ما الذي يبكيك يا أبا خالد، قال: للتو خرج من هنا رجل كهل كفيف البصر يقوده صبي صغير جاء من أقصى وأبعد قرية في البحرين، وقف مطلاً على السرير وقال: ركبنا ثلاثة باصات حتى وصلنا إليك يا أحمد بن شملان، وكنا ندعوا لك بالشفاء في كل صلاة في المسجد وفي كل عزاء للحسين في المأتم.
وكانت زيارتي الثانية له بعد خروجه من المستشفى في بيته بعراد، فكان بذات السحنة وذات الدموع حيث تدافعت الجموع هازجة مهنئة بسلامته، يقول أحمد: ما كنت أتصور هذا الزخم الكبير من الحفاوة والتكريم والفرح والابتهاج، تلك التي أولوني بها أولاء الناس البسطاء الطيبين.
يجسد الشاعر المبدع “كريم رضي” ببداهته وطبيعته وسليقته السمحة هذا الوجدان الشعبي العفوي وهذا التعاطف الجمعي الملحمي النبيل مع “أبي خالد” فقيد شعبنا ووطننا البحرين بقصيدته “بحر ثالث” ومنها:
شملان قيل ولم يخنك اسم فقد وسعت معانيك البلاد شمولا
حتى إذا فارقتها أتت المـــــلا بعواطف تهمي عليك هطولا
فكأنما البحرين فيك ثلاثــــــة وامتزت فيها لؤلؤا ومسيــلا
وتجمع الأضداد عندك هكــذا تأبى عن الحب البحار عدولا
برغم رحيل أحمد وغيابه، سيظل حيا نابضا هنا في الأعماق والضمائر والقلوب، وسيظل منارا فارقا وعلامة على طريق تحرير الإنسان وتقدم الشعوب.