صالة التحرير

0
61

تبدو صالة التحرير هادئة هاجعة في الصباح الباكر، فهذه الصالة التي تجمع أغلب المحررين، ومن شتى اقسام الصحيفة في زمن الصحافة الورقية التقليدية، فلعل وضعها، قد تغيّر الآن. هذه الصالة سرعان ما تتحول إلى مكان صاخب يعلوه الضجيج عند منتصف النهار بعد عودة المحررين من تغطياتهم اليومية في الوزارات والمؤسسات والشركات والجمعيات والأسواق وغيرها، حيث يلتقون بالبشر ويلتقطون ما استطاعوا من صيد متوفر ومتاح وقابل للنشر والتداول، ولا يخلو شباكهم أحياناً من درر وكنوز، أو ما اصطلح على تسميته “بالسبق الصحفي” الجدير بمانشيات الصفحة الأولى، ثم تبدأ معاركهم الثانية الأصعب لاحقاً؛ ما الذي ينشر وما الذي يُمنع أو يؤجل أو يختصر أو ربما يختزل  إلى المستوى الذي يفقد فيه الخبر كل أهميته ومضمونه ويتحوّل الى “مرقة بدون لحم “.

 وإذا جاد الزمان في تلك اللحظة الزمنية بظروف ملائمة، ربما وجد الخبر له مكاناً بعد أيام حين يبرد ويخفت وهجه، بيد أن أعظم مصائب الصحافة حين تأتي الأوامر بحظر النشر تماماً في موضوع يشكل مادة دسمة للصحافة والرأي العام، لكن الصحفين لاييأسون ويمنون النفس بأن تجد أخبارهم وتغطياتهم المقموعة النور ذات يوم.

 “إن اجمل الأخبار تلك التي لم تنشربعد” –  يقول أحدهم متحسراً، لكن هذه القصص الخبرية تظل موجودة ومحفوظة ومخزنة في دفاترهم، وعلى شاشات حواسيبهم، يتداولونها ويعلقون عليها في صالة التحرير بين زملائهم ومرؤسييهم  منتظرين يوما تخرج فيه الى الملأ لتعلن عن نفسها دون خوف أو خشية، هذه المواد تشكل بعضاً من ذاكرة الصحفي الغنية وحصيلة جهده ومساعيه واتصالاته وركضه واستنتاجاته، ولكم وجدتني أمام زملاء يمتلئون فرحاً وتوهجاً بما جنوا من محصول خبري وكسب حلال ومشروع في مهنتهم، فإذ بهم في المساء يستسلمون كالمهزومين وقد انطفأ حماسهم وتلاشت رغبتهم في معايشة ومواصلة يوم صحفي آخر جديد لا يشبه ما قبله، بعد أن تقرر إرجاء أو حذف أخبارهم او مقالاتهم، وأحيانا قد يشتغلون على المادة الصحفية عدة يام ويطرزونها ويملأونها بالتفاصيل الجميلة والمثيرة ثم لا تجد لها مكاناً إلا في اسفل صفحة داخلية ومتوارية، ورغم النضال اليومي في الصحافة التي اعتدناها لم يحظ الصحفيون وقتها بجوائز ومكافآت رسمية كما هي الحال اليوم، كانت جوائزهم تكمن في تمرير أخبارهم وأفكارهم بشكل تلقائي حر واعتيادي، الجوائز حضرت بعد انحدار الصحافة وغياب التعددية والتنوع والتنافس بين الصحف.

لكن في صالة التحرير كان الصحفي بالمقابل يستعيض عن اختفاء خبره أو مقاله بالتباهي والتفاخر بين زملائه بتسريب ما في جعبته من اسرار وما توصل اليه من معلومات “خاصة ” تصنف في العادة في خانة خارج التسجيل والتدوين “اوف ذا ريكورد”، أو تلك التفاصيل التي أحاطت بالخبر والتي لم تجرؤ الصحافة على نشره امتثالا لقواعد النشر البديهية في مجتمعنا  الصغير الذي يشتغل كل يوم على المحافظة على مكانة الكبار وسمعتهم.

 هنا في صالة التحرير كنا نقول المسكوت عنه ونتأسى على حجم المفارقات في التغطيات الخبرية، ونتلذذ ونتبادل الضحكات بسماع حكايات ونوادر وطرائف عجيبة تعوضنا عما خسرناه أو ما عجزنا عن تقديمه على مائدة القراء، وقد تنادينا ذات مرة لتأسيس صحيفة داخلية لنشر الممنوع فقط لكن المشروع أحبط لأسباب عديدة .

أسرار صالة التحرير التي خفيت عن أعين الناس والقراء نجدها اليوم حاضرة بقوة ومننتشرة في فضاء الإنترنت، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وفي غرف الدردشة ومجموعات الواتس اب والفيس بوك وعلى حسابات ومدوّنات النشطاء واليوتيوبرز والتوك توك، زمن يتشارك فيه كل صاحب رأي في الإدلاء بدلوه، ويتحوّل الخبر الصغير المكوّن من عدة أسطر الى قصة كبيرة ومتشعبة ومليئة بالتفاصيل في خانة التعليقات،  اذ تفتش وتبحث وتٍتساءل وتضيف وتطرح ما لديها من معلومات صحيحة أو مختلقة.

صالة التحرير الإلكترونية ذات الأسماء المستعارة أوالحقيقية قد تستبق الخبر الرسمي وأخبار مركز الاتصال الهادف الى توحيد مانشيات الصحف، هنا صالة متحررة ومتنوعة تفوق طاقة التغطية الخبرية أحياناً ويصعب السيطرة عليها أو رقابتها مهما تشددت القوانين الإعلامية أو ازداد الرصد الالكتروني، صالة التحريرهذه تبث وتنشر وتتشارك في إعلام لم نعتد عليه في صحافتنا الورقية، سابقاً وراهناً، وتنذر بتلاشي عالم ما قبله بالكامل بل وبتداعي وفشل كل منظومة قوانين وأجهزة الضبط والرقابة، ها قد حضر التغيير الذي حلم  به الصحفيون في صالة التحرير القديمة على يد التقنيات الجديدة.

 أتذكر كيف خسر بعض زملائنا الصحفيين وظائفهم وطردوا من صحفهم عقابا على جملة أو فكرة أو خبر عادي وبسيط، فقط لأنه تجرأ على السائد وتجاوز نطاق المسموح وتطاول على المسكوت عنه، يا لها من مفارقة عجيبة أن يتفوق مواطن عادي اليوم في مدونته وطرحه وفكرته وجرأته على صحافة مؤسسية عتيدة وعريقة تبحر كل يوم كسفينة ضعيفة ومحاصرة ومحدودة المدد والعون باحثة عن صيد هزيل وسط محيط من الأخبار والأفكار المتلاطمة اللامتناهية.