طاقة السلطة والهامش

0
36

عناق أي شخصين في الحياة، وفي خيالات الكتاب والفنانين، تأخذ طرقاً مختلفة ومتعددة، ولو أمكن عدّها، فلن يستطيع أحد وصف دواخلها: عناق المحبة، وعناق الواجب، وعناق العتب، وعناق الشوق؛ وربما لو أوجدنا مسمى مغايراً، وهذا يكون حين تتشكل الأجساد لتزيل أي أثر للفراغ بين الطرفين، فغالباً سيكون عناقً نطلق عليه التكامل.

والعناق في استهلال عرض مسرحية السيد والعبد يأخذ شكلاً شبيهاً بهذا التكامل؛ حيث يظهر الممثلان في التحام يشبه علامة “يين ويانغ” في رمزيتها للحياة؛ حيث التشابك اللا نهائي، والمصير المتعلق ببعضهما حتماً من خلال اللونين الأسود والأبيض المتضادين، في كل منهما نقطة بلون الآخر، تؤكد هذا التماسّ المحتوم، وفي الثقافة الصينية تشير إلى أن الدائرة الخارجية تمثل “كل شيء”، وفي داخلها التقاطع بين الطاقتين المتضادتين اللتين تتواجدان في الحياة، ولا يمكن لوجود أحد اللونين أن يمحو الآخر؛ إذ لا بد أن يكون في حاجته في وقت ما.

لكن السيد والعبد هنا يرتديان اللون المحايد نفسه، بالهيئة نفسها؛ فهما ملتحمان كقطعة واحدة قسمت لاحقاً، حتى أنه لم يفرق بينهما باللون على سبيل العنصرية أو التمييز، ولم يأتِ بعرقين مختلفين حتى يميز المتلقي بشكل مباشر، بل احتاج الأمر لوقت تقسيم الأدوار، وبدا أن اختيارهما جاء قدرياً، ولم يخطط له أحدهما. لكن ما إن عُرف السيد وعُرف العبد، حتى تغيرت النبرة، واستلم كل منهما مكانه بتلقائية، وبدأت رحلتهما: قرار وتعزيز، أو قرار وتعزيز أيضاً! فحينما ينطق السيد، يؤيده العبد، ويبدي محاسن ما يقوله؛ وحين يعيد نفس الجملة بشكل عكسي، يبرر له العبد رأيه. وهذا الحياد الشكلي، وتعزيز التوافق، يحيل المتلقي إلى علاقات أبعد من السيد والعبد؛ إلى ثنائيات -وربما أكثر- بين حبيبين، أو زوجين، أو صديقين بين مجموعة من الجيران، أو داخل منظومة عمل، أو رب أسرة وعائلته، أو ربما عبرت هذه العلاقة مباشرة في شكل العبودية الجديد المتمثل في نظام الكفيل والمكفول الذي يبقى تحت إمرة وشروط الأول!

هذا النص المستل من مخطوطات منذ الحضارة الأكادية، التي كانت أول إمبراطورية قديمة في بلاد ما بين النهرين، حدد سيكولوجية العبد والسيد؛ كيف يوجد السيد؟ وبناء على ماذا يكون سيداً؟ ولمن؟ وإلى متى؟ و كيف يولد العبد؟ وكيف تكيّفه بيئته أن يكون تابعاً لا صوت له، إلا صدى سيده؟ وهل يمكن أن تتبدل الأدوار بينهما، ولو بشكل مؤقت؟ وكل الأسئلة التي تخطر بالبال حول اختيار هذا النص غير المسرحي بالأصل، واستنطاقه بهذه الصورة، التي تفضح مكنون نوعين موجودين بيننا، قد نكون أحدهما ببساطة! وحين تختبر الحياةُ المرءَ، عبر توريطه في قوالب القوة والضعف؛ فلا تنسلّ منها إلا استثناءات معنية بالوعي وبالاتزان النفسي. أما في وضعها العادي، فيكون من “الطبيعي” أن تكون العلاقة سيداً وعبداً بالمعنى القاسي والحرفي.

ولم يسعَ العرض إلى تحديد صيغة مكانية أو زمانية لهذا العلاقة الثنائية والأزلية أيضاً، رغم الإشارة العمومية إلى مصدر النص؛ بل عمل على تعميمها عبر تعميق الدلالات المختلفة التي تشوش على المتلقي: عن أي سيد وعبد يتحدثون؟ من دقة جرس الكنيسة، أو الآذان، أو الموسيقى البوذية، إلى إنشاد صوفي، وغناء، وشعر، ونثر، وحشوات متعددة تلوح هنا وهناك، في تداخل الثقافات المختلفة وتشابكها أيضاً؛ في التأكيد على تناسخ الصفات البشرية في كل الحضارات بفكرة الخادم والمخدوم بتعدد صورها أيضاً.

العرض الذي بدأ بتلاحم على طاولة مرتفعة جانبية في مكان العرض، بدأت الحركة فيه بعد انعتاق بطيء نسبياً من بعضهما؛ وتعرف أحدهما على الآخر، ثم الاستواء على موقعهما الطبقي، وكل القرارات والتعزيزات التي تملأ الحوار-والمذكورة بشكل رتيب في ذاك النص القديم-، لكن الإخراج أبرزها بشكل مشوِّق، كان فيه الانتقال من حالة إلى أخرى وكأنَّ المتلقي ينتقل عبر أوقات وعصور ومجتمعات مختلفة؛ منذ استخدام العبد مكان الدابة لجر عربة السيد، ولغاية أضواء صالات الملاهي الليلية التي تحتفظ بعلاقة العبيد والسادة بهيئة مغايرة، وربما متوارية، يبين فيها قدم علاقة هذا الثنائي وتكراره بشكل يوحي أنه لا يتطور، بل يتجدد الشكل حسب المكان والزمان، وحسب تشكل السلطة والهامش، وهذه الأخيرة لا معايير ثابتة لها؛ حيث المتغيرات التي تقلب القوة إلى ضعف، والعكس، تتغير مع الوقت. فأسياد اليوم يمكن أن يتحولوا إلى عبيد حين يحكم المال والغذاء الأفراد؛ فتتحدد المواقع. وكم من بلدان وكيانات صدّرت للعالم ثروات مادية وبشرية وثقافية، ثم بقيت هي على هامش الحياة، وانحسر وهجها؛ إن نطقت فيكون لاستجداء القوة، أو التغني بالماضي الذي لم يعد!

وانتقل العرض، بكل ما فيه من عناصر، وحتى الجمهور، إلى الخشبة؛ حيث توسط الممثلان العرض، وأغلقت الستارة على الجميع بالداخل حين اصطف الجمهور في صفين متوازيين أمامه، ومن الطاولة الجانبية في المكان، حتى التحول الذي تتالى لاحقاً حتى يملأ كل الفراغ؛ ينتقل إليه الممثلان حسب المراحل والحالات التي يمران بها، ودون الالتزام بالنص الأصلي حرفياً، حيث قدم هذا في دهشة بصرية تحسب للعرض، مراحل تتقدم بصرياً مقارنة بنص مكرر يحتاج فعلاً إلى هذه القوة المرئية الجاذبة للتمكن من قراءة العمل، وتكملة مفهوم “اليين واليانغ” اللذين يكملان بعضهما طول الوقت، ولا يمكن أن يتواجد أحدهما دون الآخر، في التتابع الذي حصل بامتداد الطاولة على طول مساحة المكان المخصص للعرض.

وحتى لا يبدو أن القوة مصطفة مع السيد في كل الأوقات، ويبقى العبد تابعاً ومهمشاً طول الوقت؛ قارب العرض هذه الفكرة عند موت العبد، وانحسار أو تقلص سيطرة الآخر الذي تحول إلى جزء من صفات فقيده؛ النحيب، والحزن، والرغبة في إحيائه من جديد، ولو كان عبر الافتداء والنذور، ليست لحب السيد في خادمه، أو الخوف من خسارته، بقدر ما هو الخوف من فقدان هيبته ومكانته. فمَن غير العبد يقدر على تهيئة المكانة المستحقة، وفرض سلطته على الآخرين غيره؟ وهكذا تستمر الثنائيات التي تكمل بعضها؛ فلا يغلب “الـيين”، ولا يسيطر “اليانغ”، والحياة لا تستمر إلا بهما معاً على نفس الخط، مهما أوحت المسائل أن السيد هو الأهم بحكم مكانته، لكنه الظلام والسكون، والأسفل والبارد، والانكماش والضعف، أو النور والنشاط، والأعلى والساخن المتمدد، والقوة أو العكس حسب الحالة، وحسب ما تشير إليه هذه الفلسفة الصينية.

وقد يثير تقديم معظم العرض على تلك الطاولة الممتدة، ذات الاستخدامات والصور المتعددة، شكلاً من الاستعراض البصري؛ خدمةً للفرجة، وهذه وجهة نظر إخراجية مقدرة طالما أنها تسمح بتغيير الحركة، وتحيد عن أي رتابة قد تنجم عن ديو الممثلين؛ لكن الصورة الأعمق لهذا الشكل هو مستوى الرؤية الذي جعل من عين المشاهد ما يُطلق عليه سينمائياً “الزاوية المنخفضة” low angle shot  التي تتيح الفرجة من الأسفل؛ حيث الجمهور إلى أعلى مكان حركة الممثلين، وبهذا تعطي إيحاء بأهمية مضاعفة، وسيطرة فكرة العرض على المتلقين في الصفين؛ عن ما لو كان الأداء على الخشبة، وفي مستوى الأرض، وتحديداً في المكان المحدود المخصص لهما.

وبرغم كل البهرجة الممتعة التي قدمت في السيد والعبد، لكن أداء الممثلين تفوق على بقية العناصر التي بدت مصاحبة لهذا الشحن الإبداعي. فعلى سبيل التراكم، أبدع صالح الدرازي في الدور الوحيد -الذي شاهدته له مسبقاً- بعرض مسرحية “حيدر”، وكان يبدو قادراً على قراءة الشخصية المعقدة هناك كما بدا هنا مع شريكه أحمد سعيد، هذا المشحون بموهبة ملحوظة منذ ظهوره الأول، وحتى تألقه درامياً في أعمال مسرحية وتلفزيونية خليجية بشخصيات غير نمطية. وقد أعطته مسرحية “السيد والعبد” مساحة مناسبة لإثبات جدارته التمثيلية، والقدرة على استخدام الجسد، والصوت، وتعابير الوجه، وكل الانفعالات لعبد مقهور يتقن جميع الألعاب التي تعبر عن مكنونه وهو ينفذ ما يؤمر به.

وقد يكون في رصيد المخرج خالد الرويعي أعمال مسرحية كثيرة متراوحة في تقديمها بين الفكرة، وصنع الشكل في السينوغرافيا التي يعطي لها المخرج اهتماماً كبيرة وأولوية؛ لكن هذه أكثر المرات التي استخدم فيها مهارته، بدءاً من رؤية إخراجية مستنطقة من نص غير مسرحي وجد في عصر قديم، حتى استخدم في مجالات الأدب لاحقاً. وقد تبدو المسألة سهلة بالنسبة لبعض المخرجين الذين يروون استسهالاً في تركيب اللوحات المستوحاة من طبيعة النص التي لا توصيف فيها سوى الحوارات المتكررة والثابتة نسبياً، خصوصاً عند مقارنة بعض الأجزاء من أعمال فنية مشاهدة حية، أو عبر الوسائط المتعددة التي تتيح الاطلاع بسهولة على هكذا مسائل، إن حصل هذا فليكن؛ هذه الصور ليست مجردة، لذلك فإن تركيبها يحتاج إلى مهارة وقراءة واعية؛ والنقل أو الاقتباس، حتى لو كان جمالياً، فإنه سيسقط في تأويل المعنى.

لا تنتهي قصة السيد والعبد بانتهاء هذا العرض؛ وانتهائهما لنفس المصير ذي الشكل المفتوح، ذلك أنهما مربوطان بالثنائية الحية التي لا تنتهي: أيها الخادم؛ أصغِ لما أقول، وأطِعني.. فيأتي الرد تلقائياً مبرمجاً: سمعاً وطاعة سيدي.