وداعًا.. أحمد الشملان

0
46

قبل أيام قليلة غيّب الموت المناضل الوطني الكبير أحمد الشملان، الشخصية الوطنية المعروفة في داخل البلاد وخارجها، عن عمر ناهز 81 عامًا. في زمن المستعمر، كان الشملان أحد أولئك الشرفاء الذين حفروا في صخور البحر الصلدة، وعلى جدان البيوت المتهالكة «لا للمستعمر» و«نعم للتحرر والاستقلال الوطني والحرية والتقدم، وكسر قيود التخلف والرجعية». 

كان أشد المدافعين عن الثوابت الوطنية والقومية والأممية التي ظل متمسكا بها طيلة سنين عطائه، كان رمزا للاعتداد بالنفس، والالتزام بالمبدأ، والصبر والتواضع، كانت النزاهة من قيمه وشيمه دون ادعاء أو تظاهر، كان مناضلًا أمينًا نقيًا. يقول أحد الكتاب المغاربة إن النضال تضحية من أجل عدالة قضية وشرعيتها ووضوحها ولا تتأثر بانتماء لهذا الفصيل أو ذاك، وإلا تحول إلى مناصرة بعيدًا عن المفهوم الصريح للنضال، والمناصرة هنا هدفها مؤازرة الأفراد لا المبادئ وهذا تقويم وهدم للمفهوم النبيل للنضال، فالمبدأ يجب أن يبقى ثابتًا مطلقًا لا متغيرًا بتغير الأفراد والأحداث، فالحق حق أينما وقع، والباطل باطل بمفهومه العام، فهو كالداء الذي يفتك بالجسم بغض النظر عن صاحب الجسد. هكذا كان نضال وتضحية الشملان على امتداد تاريخه السياسي والفكري. ناضل في صمت وبتفانٍ وإخلاص، فلم يغره لمعان الأضواء والشعارات الطنانة، ولم يستهويه ترف الحياة وإغراءاتها. 

كان في صلب نضالات الطبقة العاملة وسائر الكادحين، مدافعا عن قضيتها وعن مصالحها المادية والمعنوية. بهذا الوعي الوطني، وهذا الإيمان المتفائل بالمستقبل، آمن بقدرة الإرادة البشرية وقدرة الوعي الوطني والتقدمي على التغيير. من هذا جعل من حياته وفكره وقلمه قلاعا باسلة شريفة تدافع عن التحرر والتقدم والديمقراطية. هذه الصلابة في الموقف والمبدأ جعلته عرضة للسجون والمنافي، ففي الزنازين المظلمة الرطبة، لم يزده ذلك إلا وضوحًا في الرؤية السياسية والايديولوجية، وإصرارًا على مواصلة الطريق. في حياته الثقافية لم تنفصل مقالاته وحكاياته عن التراث الشعبي وأصالته وعن ربط الأدب بالحياة. كان معنى الأدب عند «الشملان» قيمة جمالية واجتماعية رفيعة.

له العديد من المقالات والدراسات النقدية. في كتابه «المحور والكتابة» الصادر عن دار الكنوز الأدبية عام 1999، يشير الناشر إلى أن الكتابات النقدية في القصة والرواية البحرينية والخليجية للأديب الشاعر «أحمد الشملان» نصوص إبداعية لها أفقها الخاص التي تتألف منها منظومة لغوية ومعنوية وموضوعية تخص ابتكار الكاتب، فهي إذن تبتكر مثل القصة والرواية والشعر وافتراضات واقعية ومتخيلة في الإبداع والواقع، وتأتي بشيء مختلف وجديد.. فأنت أمام خلق إبداعي يستحضر متشابهات ومتوازنات روائيه وقصصية مبتكرة وهو ابتكار مميز خاص.. حيث تخرج القصة من القصة والرواية من الرواية. وفي هذا الكتاب مفهوم مكتمل متخيل للرموز والأحداث والشخصيات كما فهمها الكاتب الشملان نفسه، كما يضيف إليها، ويضفي عليها من نكهته وروحه وصفته الإبداعية والفكرية.

في تقديمه لكتاب «مقالات في المسرح» للكاتب الراحل أحمد الشملان، الصادر عام 2005، يذكر الشاعر الكبير قاسم حداد، في ستينيات القرن الماضي، عندما كان أحمد الشملان في غمرة انهماكه النضالي، مارًا بالعاصمة اللبنانية بيروت، حمل إحدى قصائدي «الطوفان» إلى الدكتور سهيل إدريس مقترحًا عليه نشرها في مجلة (الآداب) بوصفي أحد التجارب الجديدة في البحرين. لكن الدكتور سهيل لم يقتنع لا بالاقتراح ولا بالقصيدة، الأمر الذي أدى إلى حوار محتدم بين الاثنين مبديًا أحمد الشملان حماسًا لم يفهمه الدكتور آنذاك، دون أن يتخلى أحمد عن ذلك الحماس. وأضاف: أذكر هذه الحادثة القديمة لكي أشير إلى ذلك الاهتمام والحماس الذي كان يتميز به أحمد الشملان عندما يتعلق الأمر بالأدب والكتابات البحرينية خصوصًا، وهي مسألة لن نصادفها كثيرًا لدى العديد من المثقفين المنخرطين في الممارسة النضالية طوال فترة الستينيات والسبعينيات (حتى الآن)، الظاهرة التي ستسفر لنا دائمًا الموقف المحرج الذي يتخذه مناضلونا من الأدب والفن، أفرادًا ومؤسسات. 

غير أن أحمد الشملان لم يكن، برغم انهماكه بما عرف به من الممارسة النضالية بشتى تجلياتها، متحمسًا للأدب والفن فحسب، بل إنه كان قد بدأ باكرًا في التعبير عن نفسه بالكتابه الأدبية، حيث كان قد كتب منذ نهاية الستينيات تجارب شعرية بالغة الرقة والشفافية لم ينشرها طوال الوقت، حتى آن له أن يطبع جديده مع بعض قديمه في السنــوات الأخيرة من القرن الماضي. 

وقد كنت أقرأ له، عبر مراســلات تصلني منه يوم كان خارج البحرين. وكان يدور حوار متشعب ولا ينتهي بالسياسة، لكنه في كل الأحوال يتصل بالهواجس التي كانت تستحوذ علينا معا في حقول الهم العام. ويواصل حداد: وهناك يتوجب التأكيد بأن علاقتي بأحمد الشملان من الغنى والتنوع، بحيث يجوز لي القول دائمًا إنني قد أخذت منه درسًا مبكرًا في أخلاقيات المثقف المناضل، فكرًا وسلوكًا. وهي الطبيعة التي سيعرفها دائما من عرف أحمد الشملان عن كثب طوال تجربته الإنسانية البالغة الثراء والعطاء والبذل، في شتى حقول العمل.

 وإذا أردنا سبر التجربة، إنسانيًا وثقافيًا، يمكنني القول إن أحمد الشملان سيكون من بين المنسجمين مع ذواتهم حين يمتهن المحاماة، فهو أحد أبرز شخصيات جيله ارتهانًا بالدفاع عن الإنسان وحقوقه المادية والاجتماعية والسياسية، وهذه واحدة من الظواهر التي ستسفر لنا جانبًا مهمًا من جوانب شخصية أحمد الشملان. عندما رحل مناضل في قدر أحمد الشملان، تصبح الخسارة فادحة، خسارة للوطن وخسارة للقيم الوطنية والإنسانية. مات الشملان، ولكن فكره ومواقفه لم تمت. عزاء لرفيقة دربه الأستاذة فوزية مطر، وعزاء لأفراد أسرته ورفاق الدرب ومحبيه.

About the author

Author profile

كاتب بحريني وعضو التقدمي